الأربعاء، 16 يونيو 2010

وجهك قطعة شوكولاتة
جوزفين كوركيس

الاهداء /الى كل رجل شعر في لحظة صدق بأنه منحلّ

تلقيت دعوة لحضور ندوة لحضور إحدى الندوات العامة. لم أعد أتذكر من دعاني اليها لكنني جئت وكلّي فضول لأن كل ما يتعلق ببلدي وخاصة مدينتي (كركوك) يهمني كثيراً لذلك رأيتني جئت لأراقب الحدث عن كثب، .فأنا أتابع أخبار بلدتي لحظة بلحظة، وهذا الفضول كثيراً ما وضعني في أماكن يفترض أن لا أتواجد فيها.. دخلت القاعة الغاصّة وتعمّدتُ الجلوس في الصف الأخير بعيداً عن الأنظار وعن وسائل الإعلام التي تهتم بامورنا اكثر منا. لم أكن أعرف من يدير الندوة لكن كل ما قيل فيها كان كلاماً معسولاً ومصقولاً ومقبولاً... آه وغير معمول به بكل تأكيد. وكان الحوار الشيق يمنحنا أحلاما وردية وكلٌ يتحدث مع الآخر بلغة مختلفة لكنها مليئة بالود.، فأهل هذه المدينة كما تعرفون أناسٌ طيبون يحترمون كل من يمنحهم الأماني و الأحلام الوردية و الكل يردد "لا باس، إنها الديمقراطية وعلينا التحلي بالصبر"
جاء صديقي و جلس على جانبي الأيمن وهمس في أذني "انصرفي من هنا.. تذكري أننا في كركوك"
أجبت بخبث "اعتقد أنني اعرف أين أنا"
ثم همس ثانيةً "سأغفو قليلا.. حين تنتهي هذه المهزلة أيقظيني" ثم اسند كلتا يداه فوق عكازته وتظاهر بالاستماع وغفا.
تعجبت منه وكيف تغير. أين همته ومشاركاته في حوارات كانت تنتهي دائما لصالحه؟ لعل المرض أتعبه. اذكر كيف كان يحدثني قبل مرضه عن كل صغيرة وكبيرة وعن عدد عشيقاته و حبّه الوله لزوجته. هذا الرجل حمّلني همومه أمانةً عندي وها أنا الآن أجد نفسي مثقلة بهمومه و هو غارق في نومه على عكازته كطفل برىء أتعبه اللعب.
جاء رجل آخر لا اعرفه وجلس بجانبي الأيسر فلفتت انتباهي على الفور سمرته التى تشبه لون الشوكولاتا. كان وجهه يسيح عرقا من شدة الحر في القاعة كما تسيح الشوكولاتا.
نكأت رؤيته جراحاتي القديمة... حاولت تجنبه لذا اتكأت على صديقي محاولة ايقاظه وهو يرفض الاستماع الي ويردد "اتركي القاعة وعودي دارك متى ستعقلين!" قلت له "يوم اغفو مثلك على عكازتي" قال "اذن دعيني اغفو و تابعي انت الحدث ثم اخبريني بما جرى"
تملكني شعور غريب تجاه هذا الاسمر الغريب و اكتشفت في تلك اللحظة ان المرأة لا تصلح ان تتبوأ اي كرسي سوى (كوشة الزفاف) و تمنيت في قرارة نفسي ان تتخلى كل النساء عن مناصبهن وأن يتركن اللعب للرجال فملعب الرئاسة وجدته لا يصلح للمرأة!
صديقي نائم و الرجل الاخر هائم بعالمه والندوة تدور حسب الاصول والكل يتحث بصوت واحد دون ان يستمع الى الآخر لأن الكل مقتنع برأيه.. من غير المهم أن يفهم كل الآخر بل المهم أن تقام الندوة!
إلتقطت عبارة قالها هذا الاسمر بصوت شبه مسموع "صوتك مصيدتك" لكن احدا لم يبالِ به لان الكل مشغول في محاولة اثبات وجوده. شعرت بالعجز وباتت الندوة لا تهمني فكل همي انصب على تلك العبارة التي بدرت من ذلك الاسمر (المطعَّم بالشوكولاته) وكي اتخلص مما انا به ايقظت صديقي كي اودعه لانني قررت فجأة المغادرة. قلت له "هيا اكمل انت بعدي فأنا تاخرت". تثاءب صديقي وهو يلوح لي. ثم عاد ليكمل نومه، وخرجت انا ابحث عن لفحة هواء. وفوجئت بأن ذلك الغريب قد خرج بعدي محاولا ايقافي:
"هل لي بمحادثتك رجاءً؟" تسمرت واستدرت وقلت "تفضل ماذا تريد؟" قال "فقط ندردش قليلا، ما رأيك في أن ندخل الى الكفتيريا؟"
جدت نفسي منصاعة اليه وتبعته كمن يتبع درويشا ويطيعه بكل فخر أو كغريب لا يعرف الى اين يمضي. جلسنا متقابلين و أشار للنادل طالبا بصوته الهادئ الرزين "من فضلك كوبان من الشاي ويفضل بالحليب" اخرج علبة دخانه وشرع يدخن منتظرا المبادرة بالحديث. يبدو انه يود ان يستمع الي وانا ليس لي ما اقوله له فهو غريب و انا امرأة فضولية مضت اكثر من خمسة دقائق ونحن صامتان ثم كسرت طوق الصمت قائلة "ترى ماذا كنت تعني بعبارتك تلك: صوتك مصيدتك؟" تأملني و تنهد قائلا "اننا مسؤولون عن الذى سيتولانا والويل لنا لو اخطأنا في ذلك برغم أن الفرز يكون عادةً لصالح من اُّنتخبوا مسبقا، فإن ما نقوم به مجرد شكليات وخدع .... اننا نتلاعب بمصيرنا واتمنى ان لا تنتهي هذه اللعبة بخسارتنا كعادتنا دائما"
كنت اراقب يده وهو ينقر فوق الطاولة اثناء حديثه معي، وتذكرت ان يده تشبه يد حبيبي الذي ظننت أنني لم اعد اهواه أو اتذكره. شعرت كم افتقده. في تلك اللحظة شرد هذا الغريب بعيدا دون ان يلاحظ ارتباكي، وكان صوت المغنية الحزينة يأتي من آخر القاعة ويرن في اذناي وهي تسأل الزمان كي يبعد خيال حبيبها وجراح ذكرياته، لكن حبه لم يبعد عني، وجرحه لا زال كما هو... فلأحاول إذن أن أتملص من هذا الغريب...ما لي انا و ما له؟
عاد من تشرده الي وهو يسألني "هل لي بمعرفة اسمك؟" قلت له و انا احول سؤالي اليه "صحيح اننا لم نتعارف. هل انت من الجنوب؟" أجاب "وما الذي يجعلك تعتقدين بأنني رجل جنوبي؟" قلت "بصراحة سمرتك توحي لي بذلك" اجاب "آسف، خيبت ظنك، فانا ابن كركوك بالاحرى ابن "قوريا"" ثم اضاف "تصوري انا حين لمحتك جالسة هناك ظننتك صحفية و ذهبت ابعد منك؛ ظننتك هندية بظفيرتك السوداء و بشرتك الخمرية" قلت "وانا ايضا يبدو خيبت ظنك. انا من "شاطرلو"" اجاب "يعني ابنة منطقتي". ثم شرعنا نشرب الشاي ولما وضع يده الكبيرة التي تشبه يد حبيبي فوق يدي وقال لي بود وكأنه يعرفني منذ زمن بعيد "لماذا جلست معي ان كنت لا تثقين بي؟ اشربي شايكِ واذهبي بسلام" قلت بتذمر مفتعل بعد ان سحبت يدي "لا ابدا فنحن في مكان عام" اعاد يده ثانية فوق يدي وشل جزءً مني وبقي الجزء الآخر يقظاً يتفرس في وجهه الدافئ باحثاً عن مبررٍ لجلوسي معه. سألني وهو ينفث خيطاً طويلاً من دخان سيكارته "الا تلاحظين اننا ننجذب لبعضنا؟" قلت "لعلها الكيمياء" أبتسم و أفلتت منه نظرة انكسار.
تذكرت حبيبي وكيف كنت التقط فلتاته الثمينة بين قشات اهماله لي .. اشعل سيكارة أخرى وقال لي "اعرف أنني لفتُّ نظرك لذلك جريت خلفك؛ أنت امرأة مثيرة.. كل شئ فيك مثير ويقود الى الفضول" قلت وانا الاطفه "وانت تشبه قطعة شوكولاته". صمتُّ و صمتَ هو ايضا لكن المغنية الحزينة ما زالت تسأل الزمان أن ينسيها حبيبها. ترك يدي فشعرت بالخيبة. اتكأ فوق كرسيه ثم قال:
"انا يا سيدتي أُدعا "فخري" علما بأنني لست فخورا بنفسي.. كنت عقيدا في الجيش السابق (المنحلّ) وانا فعلا منحل اخلاقيا وعمليا وكما ترين لست مباليا؛ فمن اكون انا قبالة وطن سقط وانحل.. كلنا الآن ساقطون منحلون. صحيحٌ أنّ سقوط هذا البلد خدم بعضا من الذين كانوا على شفير الهلاك اما الباقين فتراهم في حالة احباط. لو سألتيني عن رأيي لقلتُ لك أن الكل منحل أو مجمد أو مؤجل حتى اشعار اخر. اتمنى ان لا تخدعك وسامتي فأنا لست سوى رجل منحل يموت في كل يوم عشرات المرات. اتعرفين ماذا يعني لرجل مثلي حين يسير في وطنه وهو يرى الغرباء يتبخترون في شوارعه وكأنهم أصحاب الأرض. فصدقي لا شئ يهمني بعد سقوط بلدي ولم تعد الاحداث تفرحني ولا تحزنني فأنا لست سوى رجل مشلول لكن مطعَّم بالشوكولاتة كما لقبتني"
ضحكت بمرارة على تعليقه اضاف قائلا تصوري يوم طلبت زوجتي الطلاق مني بعد زواج دام عشرين عاماً لم اتردد لحظة برغم الاطفال والبيت ولم اسألها عن سبب طلب الطلاق.. طلقتها وانا في كامل قواي العقلية و ارتبطت بامرأة آخرى كي تكمل المشوار معي من باب الضجر ودون ان اسألها عن سبب حبها لي. واكبر فاجعة في حياتي بت انظر اليها بأستهزاء.. ببساطة لانني رجل منحل.. كنت يوما ما بطلا ولي انواط شجاعة ورتبة وشهامة فارغة وانظر الى كل هذا فلم يعد هناك سوى رجل يوحي بانه رجل يحاول ان يجد مكانا جديدا له و يمحو كل منجزاته الوهمية وحتى صوتي الذي اتمنى لو امنحه لهذا الوطن اصبح مبحوحا. آه. لكم انا مستاء! ترى متى ستنتهي ازمة هذا البلد ومتى سيدركون باننا جميعا مسؤولون عما يحدث لهذا البلد. صمت هذا الغريب الذي المني و لكم تمنيت لو انه يضمني في لحظة وتذكرت حبيبي حين كان يحدثني عن همومه وكيف كان يلعن هذا الوطن الذي لم يمنحه سوى الترهات. صدمني هذا الغريب ووضعني في حيرة ما بعدها حيرة... لماذا يفرض علي ألفته هذه؟ لماذا تحول من غريب الى صديق؟ ووددت ان اخبره عني وعن حبيبي الذي هجرني مرغما لكنني اثرت الصمت وغيرت مجرى الحديث كي اخرجه من كآبته تلك وبدأنا نطلق النكات على احداث هذا البلد الذي جردنا من كل ما كنا نملك، لكن هذا المطعّم ازداد هما واشعل سيكارة اخرى وتأملني وقال "شكرا لانك استمعت الي و لقد سررت بلقائك".. وددت ان اخبره بأنني حزنت للقاءه لكنني اثرت الصمت و لعنت الوطنية لانها لم تجلب لنا سوى الهم و اي هم قلت "يا سيد فخري بصراحة فخورة انا بك و اتمنى ان تجد حياة افضل مما كنت عليه" قال "لا اعتقد فانا رجل عسكري و صعب علّي تغيير نمط حياتي برغم خدمتي التي دامت اكثر من عشرين عاماً الا انني ارى نفسي كأني لم اقم باي شئ تجاه هذا الوطن" قلت "لكنك اديت واجبك حسب الاصول" اجاب "لكن هذا الوطن لم يكن يستحق كل هذا البلاء. تصوري اتذكر يوم ذهبت الى الكويت محاربا وحين عدت باحثا عن اهلي وجدت الحكومة قامت بترحيلهم الى تخوم الصحراء بحجة انهم اكراد ووجدت اناسا غرباء استولوا على بيتنا. لكم لعنت الوطن في تلك اللحظة!. فصدقيني برغم كل بطولاتي اشعر بانني لست سوى رجل أحمق لأنني الآن اصبحت بنظر هذا الوطن غير موجود. تصوري انا لست موجود" ثم صمت برهة وقال لي مغيرا الموضوع "انت لم تخبريني عن اسمك. اتمنى ان لا اخسرك وان اربحك كصديقة" وتذكرت يوم ضغط حبيبي فوق ساقيي النحيلتين وهو قائل بود "كوني عاقلة، لا اريد ان اخسرك فأنت تاريخي" ومن يومها لم يخسرني كما انني لم افكر قط يوما بأن اربحه. قلت للغريب الذي تحول الى صديق "أنا أسمي "سعيدة" أعمل في مجال الاعلام كمصورة وهوايتي التصوير واعشق الوجوه التي ارى فيها قوة خفية تدفعني الى معرفة ما بدواخلها وانت واحد منهم وأصور كركوك كثيرا وخصوصا المناطق القديمة مثل "شاطرلو" و "كاورباغي" و"القلعة" و "مصلى" وخاصة اسواقنا القديمة وخاصة "سوق القيصرية" و"سوق الحصير" و"سوق قوريا" ولدي ارشيف خاص بكركوك" قال "اذن انت عاشقة كركوك ياسيدة سعيدة، علما بان وجهك لا يوحي بانك سعيدة، وفرصة سعيدة يا سعيدة!"
تبادلنا التحية وارقام هواتفنا النقالة لكننا لم نلتقِ من يومها ولم نحاول الاتصال ببعضنا لان كل منا لديه ما يكفيه من المتاعب وندمت لانني لم اصوره لان كامرتي لم تكن معي يومها، الا ان صورته انطبعت في قلبي الى الابد.. ذلك الرجل المطعّم بالشوكولاته.. لعله هو الاخر هاجر مثل حبيبي.


12_12_2005

ليست هناك تعليقات: