الخميس، 20 مايو 2010

ماهر نصرت-إنه أبي-قصة قصيرة

إنه أبي

ماهر نصرت



كنت سعيدا لحظة شرائي جهاز الفيديو ( سي دي ) من متجر يبيع بضاعته الرديئة بالقسط المريح ، أحمل صندوق حلمي وأعدو منطلقا" نحو وكري كطائرٍ سجينٍ أطلق سراحـه فوق رابية خضراء ساحرة ، رحت أرى الناس وكأنهم يشيرون نحوي بفخرٍ واعتزاز وأنا هائما" أخطو بكبرياءٍ ورفعـه كخطى قائدٍ متألقٍ خرج بجنده للتو من حربٍ ضروسٍ منتصرا ، أخذتني ملائكة أحلامي نحو أروقة مدرستي ، أطوف فوق رؤوس أولئك التلاميذ أولاد الذوات وأصيح بأعلى صوتي ، أني قادم .. سأخترق أنانيتكم وتفاخركم أيها المتكبرون وسأشارككم الحديث غدا" عن أحداثِ آخرِ فيلمٍ أمريكي هبط الى السوق ..... وصلت البيت وكأني طائرٌ على بساطِ الريح ُترافقني الفراشات والنسمات ، هناك بين أزقــة الماضي الصدئة وشناشيل الحضارة المتأخرة وأمام باب دارنا الخشبية المرقعة كباقي أبواب الحي وقفت أمي تنتظرني بصبرٍ يكادُ ينفذ ، وما أن رأت طلائع قامتي حتى أشرقت على مُحيّاها علامات البهجة والسرور … فاليوم هو يوم الفيديو العالمي في بيتنا الفقير ، يوم بهيج في تأريخ عائلتنا المسحوقة منذ أن فقدنا والدنا قبل اثني عشر عامـا" ، فأمي ( الخرساء ) التي لاتفهم من حياتها سوى الطبخ والغسيل وجدت نفسها في صباحِ يومٍ عصيبٍ أنها معيلة لصبي وطفلتين ، وهي لاتمتلك من المال ما يكفينا حتى صباح اليوم التالي ، فإيجار البيت أستحق قبل شهرين ، وبائع الخضار عبس وتولى ورفض تزويدنا باحتياجاتنا ما لم نسدد قائمة حسابه المتأخره منذ عشرة أيام ، وصاحب المخبز ذلك العجوز المراهق عاشق الخمر والنساء أرسل لمضاربنا رجلُ مغوارُ يُطالبنا بدفع ثمن الخبز للأيام الماضية فأخذتنا الرجفة ورحنا نتوسل به لكي يمهلنا حتى العصر قبل أن يفتك بنا... وبائع النفط هو الآخر راح يسرع عربته ويضرب حماره بقسوة عندما يقترب من باب دارنا فيغضب الحمار المسكين ويـــنــهق ويتمرد بعد أن كان يعدو سعيدا" مبتسما ، حتى انضمت عائلتنا إلى قائمة الفقراء القياسية المعلقة في بيت ( أبي رباح ) مختار الحي ، فقبل ستة أشهر حصلنا بأعجوبة من منظمة إنسانية على ثلاثِ بطانيات ووسادتيِ إسفنج ، وبعدها بشهرٍ تصدق علينا مدير دائرة أبن خالي ومنحنا تلفزيون يعمل باللكمات ، وقبلها تكّرم علينا خطيب جـارتنا ( أحمد الخطيب أعزه الله وأسكنه فسيح جناته ) ومنحنا طباخ نفطي صغير لنطهي عليه طعامنا بدلا" من أكوام الحطب التي تتطاير منها سحب الدخان وتزعج أنف خطيبته المغرورة غيداء صاحبة الشعر الأصفر والعينين الزرقاوين والأنف الصيني المفعوص .

دخلت البيت أتقدم كرنفال الاستقبال ووضعت جهاز الفيديو أسفل صورة والدي بطقوسِ الإجلال والعظمـة مثل قربان يُرمى تحت قدمي إلـه … ورحت أناشد أبي في لحظة شوق زلزلت أعماقـي وجعلت دموع الحسرة تنساب برغبة الذي لم يرى أبيه ألا في صورة وحيدة مغوشة المعالم عُلقت فوق جدرانٍ مهترئة منذ أعوامٍ طويلة وأنا أردد بصوت خنقته الدموع ( لماذا رحلت عنا يا أبتي ؟ هل كل من خرج في الصباح ليجلب الفطور لأطفالهِ هرب كما فعلت أنت ؟ أم أنك لم تستطيع أعالتنا فانتحرت كما فعل جارنا ( أبا غيداء ) ؟ أم يا ترى قد أحرقتك نار الحرب وراء وجبة تجنيد إجبارية قام بها رجال ( صدام ) ، عندما كانوا يخطفون الناس من الأسواق ومحطات وقوف السيارات بحجة عدم مشاركتهم بميلشياتِ الجيش الشعبي لخدمة الوطن كما كانوا يكتبون هكذا في الصحف … عد ألينا ياأبتي ، فها أنذا قد كبرت ووجدت عملا" فيه من الرزق ما يكفينا .. عد ألينا فنحن نحبك وسنضمك إلى صدورنا ونفخر بـك إلى الأبد … ) .

ومرت الأيام كالسحاب مع جهازنا المؤنس ، كنت أستأجر بين حينٍ وآخر أقراص أل ( سي دي ) من بائعين يجلسون وراء مناضد صغيرة في أروقة الأسواق وعلى أرصفة الشوارع حيث أرتال الناس المتعاكسة والتبادل التجاري المُكثف ، يتجمع حول تلك المناضد ثُللٌ من الشبابِ والمراهقين ، يبتاعون ما تميل أليه أذواقهم من أغانٍ معاصرة فيها من الصخبِ والجنون الموسيقي ما يرقص مشاعرهم ويخفف حرقة آلامهم ، ويبتاعون أيضا"أقراص أخرى بضمنها جنسية يتبادلونها من خلف الأسوار ومن تحت أسطح المناضد ، صادفني في إحدى المرات أن أستأجر قرصا" ظهر مع ألبوم الموظة يقال أن فيه مشاهد مروعة عن تعذيب معتقلين في سجون النظام السابق ، عدت أدراجي إلى البيت متلهفا لرؤية تلك المشاهد ، كانت أمي وشقيقتي يجلسون على مقربة مني وهم ينتظرون بلهفة رؤية أحداث ذاك القرص بعد أن سمعوا الكثير عن أهواله من أهل الحي .

شغلّتُ القُرص بعد أن ضربت جهاز التلفاز بلكمتين عنيفتين .... وراحت المشاهد المتوحشة في شاشتنا الصغيرة تمزق مشاعرنا ، فيها رجال عراة مُقيدون تُضرب أجسادهم بأسلاكٍ من نحاس وهم يصرخون ويتوسلون ، وآخرون ذوو أجساد ضعيفة مضرجة بالدماء حوصروا بغرفةٍ مقفلة ، يُضربون بهراوات جلادون قساة وهم يرتجفون ، كان أحدهم مصابا" بالجنونِ ، تراه يضحك ويتصرف كالطفلِ بعد كل ضربةِ سوطٍ عنيفة ، وعلى مقربة ٍ من هذا وذاك تستلقي جثة رجل مسكين تشنجت أعضائه وبات لايشعر على مايبدو بآلام الضربات المتعاقبة من سلكي الرجلين القائمين على رأسه …. وراحوا يتساقطون الواحد تلوّ الآخر .

وفجأة … صرخت أمي بعد أن قفزت من حصيرتها وأخذت تضرب جسدها وتمزق ثيابها في نوبـة هستريا لامثيل لها ، والعجيب أنها عادت تنطق ثانيـة" بعد خُرسٍ لازمها أثنتا عشر عاما" وهي تصيح بجنون ( هذا هشام … هذا هشام … هشام ) !!!

كان هشام رجلا" نحيفا" ضامرا" يرتجف بصمتٍ ويحتفظ بثمة كبرياء وقد تشنجت أعضائه ومازال السوط يضربُ جسده ، أتعلمون من هو هشام ؟ أنــه أبي ! … أني أحبك ياأبي …..

Maher_nasrat@yahoo.com

ليست هناك تعليقات: