الأحد، 16 مايو 2010

حسن مهدي هادي - هناك.. مع بقايا الأشياء - قصة قصيرة

هناك... مع بقايا الأشياء

حسن مهدي هادي




وقف مندهشا قبالة جسده الممدد على قفاه في مقبرة القمامة خارج المدينة. كانت شمس الظهيرة تلفح المكان فتنبعث روائح كريهة مقززة تختلط بخيوط الدخان الأبيض المتصاعد من بقايا حرائق صغيرة متناثرة هنا وهناك في المكان المترامي الأطراف. طاف حول جسده.. تفحصه..كان الجسد شبه عارٍ.. العينان المتغضنتان بنصف إغماضه والشفتان انفرجتا فبرزت الأسنان المتداعيات بنصف ابتسامة. تفحص الغضون والتشققات تحت العينين وخطوط التجاعيد العميقة في الجبهة وتحت الوجنتين وفوق الرقبة.. لامس الشعيرات السود الطوال النائمات في صدره الأبيض المترهل.. بدا الجسد غريباً عنه رغم إدراكه انه جسده..

تناهى لمسمعه أصوات كلاب سائبة كانت تتكوم فوق تلال القمامة ليس بعيد. شعر بالأسى لنفسه وراح يتلفت مذهولاً في جميع الاتجاهات.. تسمر في مكانه وهو ينظر في العينين المتجمدتين كزجاج بلوري بلا بريق. بدأ يدرك أن لا شيء يجدي بعدُ وإنها ربما تكون نهاية الأشياء.. كل الأشياء: الأحلام، الآمال، الطموحات، التغيير، الخطوات المؤجلة، الربيع الذي طال انتظاره والعمر الذي لم يعد فيه بقية..

بقية! أعجبته هذه الكلمة؛ كلمة وجدها تختصر كل مسيرة عمره الذي أضاعه على أرصفة موانئ وهمية، موانئ لم يطأها سوى في خيالاته. فلقد كان كلما هم بالمغادرة تثاقلت قدماه إلى الأرض حتى لم يعد بمقدوره الحراك.. في كل مرة كان يوجِد لنفسه آلاف التبريرات، الأعذار، وربما التضحيات الرعناء. وهذه البقايا التي أمامه الآن تختلط ببقيته المزرقة.

تمتم في نفسه "إيه يا بقيتي ها أنتِ تنامين بين بقايا الأشياء الأخرى.. بقايا من كل صنف ولون.. كل ما تلفظه الحياة ينتهي هنا في وحدة متسامية سرعان ما تنتهي بالتفسخ أو بالحرق. آه إنهُ الذبول والتحلل حيث تبدأ السوائل بالتبخر مخلفة ورائها صلبات المواد وقاسياتها لتعود إلى رحمها من جديد. نعم رحمها فكل شيء يولد من رحم وكذا أولادي فلقد كانوا أول إحباطاتي حين خرجوا من رحمها وسرعان ما غادروني"

تراجع للخلف بضعة أمتار مقتعداً كومة صغيرة من القمامة. وجد عوداً صغيرا وراح يخط به على الأرض بين قدميه خطوطاً مستقيمة وأخرى متقاطعة ثم مسح تلك الخطوط ورسم دائرة كبيرة وضع داخلها سريراً دافئاً وطاولة وكرسيين وجعل على الطاولة كأسين وقنينة. وعلى السرير كانت ثمة امرأة تستلقي برعونة.. امرأة بعينين سوداوين تلمعان وفم صغير ممتلئ وشعر اسود فاحم يفترش الوسادة، وبانت ساقية صغيرة داكنة بين نهديها الأبيضين. شعر برغبة عارمة بالبكاء وحين التقت عيناهما بسطت المرأة ذراعيها فاستلقى فوقها وكانت رائحتها تطيح به.. تفتته، وكالنمل راح يترنح حول جسدها البض يلثمه ويضغط بيدين مرتعشتين على تكويرة النهدين والجسدين ملتصقين تماما يئنان ويتحركان حركة دودية.. وضعت المرأة يدها خلف رقبته وشدّت فمه بعنف إليها وهمست "احبك" كان يحس ارتعاشات جسدها الشهي يتمزق تحته. امرأة استوطنته لعقد من السنين وامتلكته لكنه كان ينزف ويتحطم وهو يرى آخرين يشاركونه فيها فقرر أن يهرب منها إلى امرأة أخرى امرأة خالصة له. ولما بدأ يشعر بالغثيان حين راح رأسه يدور بسرعة في محوره على طول محيط الدائرة التي رسمها أسرع يمسح بالعود ما خط قبل قليل بحركة هستيرية فاطمأن قليلاً ورسم بدلاً منه مربعاً ووضع داخل المربع بناءاً كونكريتياً وامرأة وطفلين. ثم انه أطلّ برأسه داخل المربع فلم يستطع أن يميز ملامح المرأة غير انه شعر بالقرف منها. سحبته المرأة من رقبته داخل المربع فتدلى بيدها كذيل طائرة ورقية. راحت المرأة تضغط على مواقع الألم في جسده بعنف، كان يتلوى، يئن، يصرخ بلا صوت. فتحت المرأة صفيحة من المعدن الصدئ ووضعته فيها ثم علقت الصفيحة في رقبتها بحبل وراحت تقرع عليها وتولول بصوت بدا له مألوفا جداً، وكانت تخرجه بين الحين والآخر ليرقص أمامها ثم تعيده إلى مكانه مجدداً.

تذكر انه كان قد جلب لعبة إلى ولده المتزوج الآن.. كانت اللعبة عبارة عن قرد يحمل طبلاً وثمة مفتاح معدني مثبت في ظهره.. وما أن يدار المفتاح حتى ينطلق القرد يهتز ويقرع الطبل. كان القرد بنيا وأنفه اسود وثمة قبعة بيضاء صغيرة تغطي رأسه. ابتسم فسألته زوجته "لمَ تبتسم؟" نظر في عينيها بسخرية وقال "لاشيء...لا شيء".

قدم من بعيد سرب من الغربان وحطّ ليس ببعيد عنه وحين رأته الكلاب راحت تطارده بضراوة ربما لتبعده عن منطقة نفوذها. انتصب واطئاً بقدميه كافة الخطوط والتقاطعات التي رسمها من قبل وراح يدوسها بعنف في حين كانت الشمس قد مالت خلفه بزاوية حادة فلم يلحظ له ظلاً فوق الجسد المنكب فوقه فيما تكدس الذباب فوق انفه وتخلل بين شفتيه وأسنانه قطعة سوداء قميئة.

ليست هناك تعليقات: