الخميس، 20 مايو 2010

د. أسعد محمد تقي-رؤية لما يحدث

رؤية لما يحدث

د. أسعد محمد تقي



في البدء يجب الاعتراف بأن النظام الامريكي، كما النظام البريطاني ذو ديموقراطية عريقة، وهما الاعرق في ديمقراطيتهما من بقيّة الديمقراطيات الغربية الأخرى . إلا أن العراقة في الديمقراطية، وحتى الديمقراطية نفسها، لا تعني بأيّة حال أنها مترعة بالإنسانية، وإلا فإننا سنجد أنفسنا في حيرة من نمط الديمقراطيّة التي تجيز التمييز العنصري أو التي أنجزت الحرب الفيتناميّة مثلا, أو تلك الديمقراطية التي وقفت بحماس إلى جانب فرانكو في الحرب الأهلية الأسبانية التي اندلعت في عام 1936 إثر فوز الجمهوريين في الانتخابات الاسبانية . أو التي دفعت الى انقلاب العقداء السود في اليونان بقيادة بابادوبلس ورهطه, وربّما علينا أن نفكّر بمجازر سوهارتو في اندونيسيا عام 1965 وبينوشيت في تشيلي عام 1973، والقائمة تطول ولكننا سنتوقف عند عام 1963 في العراق باعتباره العار الاكثر مدعاة للخجل وفق المقاييس الديمقراطية والأخلاقية المتعارف عليها . فانقلاب 8 شباط من ذلك العام لم يكن على الاطلاق وليد انفعال الأيام القليلة التي سبقته، بل هو بالتأكيد كان النتيجة المنطقيّة للحظة ادراك فداحة الخسارة التي قد تصيب المصالح الأمريكية لو تُرِك الأمر للشعب العراقي في ذلك اليوم التمّوزي القائض من عام 1958، تلك اللحظة التي دفعت أمريكا لإنزال قوّاتها في لبنان يوم 15 تموز من العام ذاته وتبعتها القوّات البريطانية بعد يومين، أي في 17 تموز . هاتان الديمقراطيتان هما نفسهما اللتان عملتا باستمرار لجعل العراق مجبرا على قطع طريق الأثنين والخمسين عاما الماضية، وهي كما يعرف الجميع، أعوام لم تكن بهيجة على الإطلاق، أصبح العراق في نهايتها مصطبغا بالكآبة ويكتنف مستقبله الغموض . ويجب أن نشير إلى النقاط الداكنة في هذه المسيرة وبعجالة

- كان الدور الأمريكي سلبيا بل وتآمريا على طول الخط، وكان الدور البريطاني سلبيا وتآمريّا ولكنّه دفاعيا إذ كانت بريطانيا تأمل أن يكون الإندفاع الأمريكي نحو ملء الفراغ البريطاني في العراق رحيما بمصالحها، لذلك كانت سياستها على الدوام تتسم بمحاولة الحفاظ على أكبر قدر من المصالح الأستعماريّة القديمة

- - كان انقلاب شباط واحدا من السمات البارزة لنصف القرن الماضي ولا أحد يشك، ان هذا الحدث كان أمريكيّا بامتياز وكان نجاحه باهرا ساهمت فيه النوايا الطيّبة للوطنيّين الذين كان الشهيد عبد الكريم قاسم نموذجا لهم ... وكان خرابا وشهداءَ ودماءا .. وكانت بربرية وانتهاكات فظّة واكتشافا لأنماط غريبة من السلوك السياسي لم تعرفها السياسة العراقية حتى في أكثر لحظاتها احتداما

- ثم جاء انقلاب تمّوز عام 68 الذي دشّن عودة البعث بكلّ أساليبه في الاغتيال والتصفيات وأشاعة مفاهيم الفاشيّة السياسيّة والمكيافيلليّة في التعامل مع القوى السياسيّة في الداخل ومع مشاكل العلاقات الأقليميّة مع دول الجوار .

وكان صدام حسين أبرز فرسان هذه المرحلة، وإذا كان من الصعب اكتشاف وثيقة مكتوبة ومختومة للتدليل على ان هذا الرجل هو صنيعة أمريكيّة مخابراتيّة من نمط الشقاة الذين يجري اعدادهم لمهمّات خطيرة اعتمادا على قدرتهم واستعدادهم لتخطّي القيم والقوانين، حتى العرفيّة منها، فإنّ تلمّس الأدلّة الموصلة الى هذه الحقيقة ليس صعبا بدليل إن بسطاء العراقيّين أدركوها منذ زمن بعيد .

- عندما احتاجت أمريكا إلى من يلجم الثورة الإيرانيّة وينفي أية احتمالات لميلها نحو اليسار وبالتالي مواصلتها نهج بداية الخمسينات الذي قاده مصدّق، لم تفكّر برجل من طراز السياسيّين الديمقراطيّين الذين يتحلّون بالحكمة والمعرفة الاقتصادية والتاريخية لكي يتمكن من جعل المواجهة مع ايران محكومة بالمصالح العراقيّة, بل اختارت نزقا مهووسا كصدام حسين لهذه المهمّة، وهي تدرك أن لا مكان في رأسه لمصالح العراق وإلا فإنّه سيرفض شن الحرب على ايران لمجرّد الحفاظ على مصالح الغرب المتمثلة باستقرار الأنظمة المتخلفة في الخليج .

- وعندما قررت الولايات المتحدة أنّ الأوان قد آن لقطف ثمار سياستها في المنطقة بعد أن ادركت أنها القوّة الوحيدة المقرّرة للسياسة العالميّة، وبعد أن بانت بوادر الهزال على النظام السوفييتي الذي كان يعاني من البيريسترويكا والغلاسنوست وهما التجديد والمكاشفة الغورباشوفيّتين وكذلك ميول بوريس يلتسين لتفتيت الأتحاد السوفييتي بالطريقة المثيرة للشكوك والجدل، قرّرت أن تدفع رجل مهمّاتها الى احتلال الكويت عبر أكثر من ضوء أخضر أعطته له سفيرتها في العراق أبريل غلاسبي، موحيةً له بأن الكويت ستكون تعويضا وجائزة ً له على عمله الكبير في حربه مع ايران وإضعافها، والجميع يعرف حجم الكارثة والمصائب التي لاحدّ لها التي تلت احتلال الكويت بعد انتشائه بالوعد الأمريكي بأنَّ حلَّ الأمرِ سيكون داخل أروقة الجامعة العربيّة وأن بوش الأب عاقلٌ بما يكفي، حسب قول السفيرة غلاسبي، لكي يمتنع عن استخدام القوّة العسكريّة ضدّه . وكان الرجل جذلا بهذه الأشارات فدخل الكويت وكانت مأساة حقيقيّة لشعب الكويت ولكنها أكثر من ذلك لشعب العراق وفي عين الوقت كانت جائزة حقيقيّة للطغمة الماليّة والعسكريّة الأمريكيّة وشركاتها العملاقة . وكانت الفرصة التي منحت أمريكا القدرة على وطء أرض الجزيرة ووادي الرافدين بجزماتها العسكرية الأمر الذي لم تكن تحلم به في السابق .

- تبع هذه الأحداث الحصار الأقتصادي, وكانت الولايات المتحدة الامريكيّة ومعها بريطانيا بطلتيْ هذه المرحلة التي كانت شديدة الوطأة على الشعب العراقي وبدرجة أقل على سلطة صدّام حسين، وهي إذ أضعفت الطرفين فإنها أخلّت بمعادلة الصراع بين الشعب وجلاده لصالح الجلاد طبعا . ولكن امريكا كانت تدرك جيدا ان الضعف سيصيب الأثنين فيما كان صدام يَعَْمَهُ في غبائه السياسي معتقدا ومصدّقا ما أوحت له أمريكا به، من إنه غير معني بما يحصل لانه بالنتيجة سيبقى كما هو، والدليل ما حدث بعد حرب 91 . لقد سمحت له أمريكا بذبح العراقيين بدم بارد لانها أدركت أثناء الانتفاضة في آذار من ذلك العام، أنها ستواجه حركة شعبيّة وعفويّة من الصعب السيطرة عليها, وهي ذات طابع معادٍ لها . فكان قرارها بتصفية هذه الحركة ومادّتها، وجلّهم من الشباب ,فكان صدام ونظامه وجلاوزته أدوات التنفيذ. وصار من الحقائق الشائعة ذلك الحشد الهائل من الجرائم بحق الأنسانيّة

كلُّ هذا كان من المقدّمات الضروريّة للعمل العظيم الذي أقدمت عليه القوّتان الديمقراطيّتان، أمريكا وبريطانيا، ألا وهو "تحرير" العراق .

أجد أن لابد من الاتفاق مع من يرى أن بوش وبلير هما نتاج العولمة التاريخيّة *, فرضها قانون الضرورة "وليس الصدفة على أيّة حال " وليس لانقاذ شعوب الشرق من الأنظمة المستبدّة. والسبب أن هذه الأنظمة وكل جرائمها هي من نتاج المصالح التي يمثلها هذان الرجلان، ولم نجد في كل أدبيّات الأدارتين الأمريكيّة والبريطانيّة ما يشير الى رفض هاتين الأدارتين أو إدانتهما للأدارات السابقة التي أوجدت هذه الأنظمة بالرغم من إن واحدا من رموز الادارة الأمريكيّة وهو السيناتور وليم فولبرايت (الذي كان يرأس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي في نهاية الخمسينات وبداية الستينات) كان قد أعلن في السبعينات أن أمريكا هي أكثر البلدان التي تصنع الدكتاتوريّين ومن ثم تجهد للأطاحة بهم .كما إنّ أحداّ من الإدارتين لم يعلن إدانته لقيام أمريكا بإيجاد وتمويل منظّمات إرهابيّة عديدة وليست القاعدة هي الوحيدة في هذا المجال، بل إنّ من المعروف إنّ الولايات المتحدة إعتمدت الحركات الدينيّة في تشكيل أطراف معادلة الصراع السياسي في دول عديدة، مستندة الى الرأي القائل إنّ الصراع بين الفصائل الدينيّة والأحزاب والحركات المنبثقة منها لايمس بأيّ حال من الأحوال الشأن الأقتصادي أو شكل الملكيّة, ومن النادر أن نجد حركة دينيّة قد وضعت في برنامجها رؤيةً للصراع الطبقي، أو اعتبرت نفسها ممثلة لمصالح طبقيّة معيّنة.

وعندما تنتهي الحرب الأطول عمرا في القرن العشرين، الحرب الباردة، لصالح الرأسمالية يصبح من الملائم تشديد الاستثمار ولكن ليس بالضرورة أن يكون العنوان دكتاتورا فاشيّا وعصابيّا يتلذذ بالعنف والقتل كما في لحظات استعار أوارها، إذ يكفي في لحظات انتصار الرأسماليّة واكتساب العولمة، وهي عمليّة تاريخيّة موضوعيّة لا يمكن منعها بأيّة حال، طابعا رأسماليّا، أن تقام الأنظمة على أسس جديدة، أقلّ دكتاتوريّة وأخفّ عنفا ولكنها ستكون أكثر إقناعا وأفضل جدوى لعلاقات أقلّ تسبّبا بالمتاعب. ولكن الحقائق في العراق وفي أفغانستان اقتضت شكلا آخر من التغيير ألا وهو الأحتلال المباشر. إذ إنّ التغيير في كليهما سيكون مجازفة خطِرَة دون رقابة مباشرة من القوّة العسكريّة للولايات المتحدة وحلفائها وكل منهما يشكّل في برامج الأدارة الامريكيّة مركزا مهمّا لأعادة تشكيل خارطة منطقة بأكملها . فأفغانستان ينبغي أن تكون نقطة وثوب وتحكّم في منطقة مهمّة تشمل إيران وباكستان والأهم بحر قزوين، المنطقة الأكثر غنى باحتياطيّات النفط . أمّا العراق فهو الموقع الأهم لدى واضعي الستراتيجيّة الامريكان من بداية النصف الثاني من القرن العشرين باعتباره الجائزة الأعظم والموقع الأهم لأدارة عملية خارقة الأهميّة للمصالح الأمريكيّة وهي إعادة رسم خارطة الشرق الأوسط، وسمّوه الكبير لأنّهم أضافوا له مناطق من أقصى شمال غرب أفريقيا إلى تخوم الصين منتشينَ بخمرة الأنتصار في الحرب الباردة . ولم يكن الهدف هو منع الأذى عن الوطن الأمريكي، إذ إنّ هذه الأنظمة كانت تعيش على الدعم الأمريكي ولم يكن بوسعها الأستمرار دون هذا الدعم، بله التحرّش بالمارد الامريكي . وأيضا لم يكن الهدف هو تحرير شعوب هذه الدول من أنظمتها ونشر الديمقراطيّة فيها، والدليل في العراق هو هذه الفوضى المؤذّية إلى حدّ بعيد والمعيقة لأيّ تطوّر ديمقراطي لاحق . وهي الفوضى ذاتها التي أتاحت نهب الوثائق والآثار والمخطوطات، الثروة التي لاتقدّر بثمن لانها تمثّل مركز العراق العظيم في تاريخ الحضارة البشرية . وهذه الفوضى هي نفسها كانت السبب في انتشار الفساد الأداري والأخلاقي وضعف الأرتباط بالقيم الوطنيّة وابتعاد الأمل في العودة إلى شيء من الحدود المعقولة للحصول على الحقوق الأنسانيّة العاديّة . وقد يقول قائل إنّ السبب هو هذا العنف الذي تمارسه القوى المعادية لأمريكا الأمر الذي يعيق تطبيق البرامج الأصلاحيّة وإعادة الأعمار، وفي هذا السياق يمكن ملاحظة الأمور التالية :

- إنّ الولايات المتحدة غيّبت المؤسسات تماما دون وضع أيَّ شكل من أشكال البديل

- عرّضت كل ثروات البلاد، كما ذكرت آنفا، وخاصة الثقافيّة والتراثيّة منها للضياع والسرقة وهناك من يميل إلى إتهامها بسرقة الكثير منها .

- سمحت الولايات المتحدة بسرقة أدوات العنف من المنشآت العسكرية ممّا وفّر فرصة كبيرة لأدامة الفوضى .

- أفسدت الكثير من الذمم عبر برامج إعادة الأعمار دون رقابة حقيقيّة الأمر الذي خلق فئة من المستفيدين الذين كدّسوا أموالا طائلة خارج القانون وباتوا يرونَ في الاستقرارَ عدوّا يهدد مكاسِبَهم .

يقول بلير في استجواب الساعات الست أمام لجنة شيلكوت التي تبحث في قرار الحرب واحتلال العراق، إنه لم يكن هناك شح في التخطيط ولكن بعضا من هذا التخطيط كان خاطئا . وكأنّي به يتحدث عن رحلة الى الريف دون ان يكون قد أحضر لها المستلزمات الملائمة . ولكن الأكيد ان هذا القول مخالف للحقيقة إذ ان التخطيط لم يكن خاطئا والفوضى لم تأت صدفة أو كنتيجة غير مطلوبة . انها كانت نتيجة مطلوبة وربما يمكن ان نلاحظ أمرا شديد الخطورة وهو ان الفوضى تجعل من الصعب على المدى الطويل ان يحقق العراقيون تقدّما في موضوع الاستقلال واستعادة التعامل المتكافيء مع الدولتين المحتلتين .. أمّا الخطأ الحقيقي فيكمن في أن العراق تحوّل الى ساحة صراع بعد الاحتلال ويكمن في أساس هذا الصراع وتصاعده ان العراق كان حافظة لعدد كبير من مصالح الدول المختلفة وجلها من الدول الكبرى وليس من السهل على مثلها أن تتقبل نفي جميع مصالحها لمجرد ان الولايات المتحدة وبريطانيا ارادتا الاستحواذ على كل المنافع من بلاد النفط والزراعة والنهرين مستندتين على حساب خاطيء لميزان القوى الدولي أو انهما لم تتمكنا من المحافظة طويلا على هذا الميزان الذي كان يميل لصالحهما لحظة بدء العمليات العسكرية وهو الوضع الذي أغراهما بفتح أكثر من جبهة، في أفغانستان والعراق ثم جبهة الأزمة الماليّة والان جبهة اليمن وربما تشتعل جبهة أخرى خطيرة في شرق آسيا بين الكوريّتين وهناك من يلوّح بضرب ايران .

وبالعودة للشأن العراقي نجد إن أمريكا قررت تنفيذ احتلاله عندما كان الامر يشير الى تميّز قوّة الولايات المتحدة باعتبارها قطبا أوحدا وذا اقتصاديّات هائلة وفي الجهة الأخرى أوربا المتردّدة القلقة والتي تميل الى الورع الديمقراطي فيما روسيا لازالت تعاني من بقايا سياسة يلتسين والفوضى التي انتشرت بعد تفكّك الأتحاد السوفييتي والاقتصاد المتدهور والديون المتراكمة وفي الشرق الآسيوي تقبع الصين في ورشتها الصناعيّة الهائلة دون أن تصل الى اليقين الكامل بقدرتها على الخروج الى مناطق النفوذ .

وبانشغال الولايات المتحدة بحربيها في افغانستان والعراق بدأت ملامح جديدة تظهر في ساحة السياسة الدولية والاقتصاد العالمي . فأمريكا بدأت تعاني من تكاليف الحروب وبعد احتلالها العراق بدأت أسعار النفط بالتصاعد وكان هذا الصعود يقدم فائدة للولايات المتحدة من خلال سيطرتها على نفط العراق ونفوط الخليج الاخرى . وكان نفط العراق ( وهو القطاع الوحيد الذي حافظت عليه الجيوش الامريكية أثناء وبعد الاحتلال وهو ما يوحي بشيء مثير ) معززا لجهود امريكا العسكرية والاقتصادية وارتفاع سعر النفط العالمي سيكون مفيدا ايضا بهذا الاتجاه، ولكن الامر لم يقتصر على هذا الجانب، إذ إن روسيا وهي المنتج الأول للنفط صارت هي الاخرى تحصل على عائدات ضخمة من بيع نفطها وغازها الامر الذي عزز قدرتها على الايفاء بديونها وترصين اقتصادها ووضعها الاستراتيجي حيث بدأت باستعادة تدريجية لدورها العالمي ساعدها في ذلك وجود رئيس مثل فلاديمير بوتين دأب على تعزيز مركزية الادارة وانتشالها من الفوضى السابقة دون ان يتخلى عن البراغماتية في التعامل الاقتصادي مع الدول الاخرى فيما كانت عائدات الولايات المتحدة تُسْتَنزف في حروبها على اكثر من جبهة . وجاءت أخيرا الازمة الائتمانية التي هزت النشاط العقاري في امريكا ومنه امتدت الى جميع الانشطة الاقتصادية والى أغلب الدول القوية اقتصاديا . فكان هذ المشهد باعثا على اكتساب الصراع في المناطق الملتهبة وأعني بها العراق وافغانستان أشكالا ووسائل جديدة اقتضاها ميزان القوى الجديد، هذا الميزان الذي جعل روسيا ترسل طائراتها الاستراتيجية الحاملة للقذائف النووية الى فنزويلا وتمارس طلعاتها بالقرب من حدود الولايات المتحدة . وبات من الممكن ان يتصوّر المرء أن بأمكان روسيا وبعض دول اوربا، التي تضررت من حرب العراق بشكل خاص، أن تمارس دورا في ارباك الوضع في افغانستان عبر تلكؤها في الاستجابة لمتطلبات الحالة العسكرية هناك، والاهم من هذا الارباك الذي تسببه في العراق للسياسة الأمريكية، وقد يشطح الخيال بأحدهم فيتصوّر أن بامكان هذه الدول ان تخترق المنظمات السرية وتزودها بكل مايلزم لمواجهة الامريكان تحت يافطة قتال المحتل أو ربما الدفاع عن الاسلام ويافطات اخرى ممكنة . وهذه الدول ترى ان من حقها القيام بذلك لانها كانت تمتلك قبل الاحتلال مصالح اقتصادية هائلة مع العراق وليس من المعقول ان تتربع أمريكا لوحدها في هذه المنطقة الشديدة الاهمية وتهزأ بالآخرين وبمصالحهم . ولذا فإن على الولايات المتحدة ان تنصاع بشكل أو بآخر الى الأخذ بنظر الأعتبار مصالح الدول الاخرى وإلا فإن عليها مواجهة استنزاف قواتها في العراق وهي بطبيعة الحال غير قادرة، في ظل هذه الظروف، على تحقيق انسحاب أمن دون ان يصطبغ بلون من ألوان الهزيمة وما يستتبعها من خسارة بعض المصالح في المنطقة .وقد يجد البعض في هذا تفسيرا لما نراه من عودة الشركات الفرنسية والروسية والصينية إضافة لشركات الدول الاخرى الى المشاركة في الاقتصاد العراقي عبر توقيع عقود كبيرة في مجالات اقتصادية مهمة من بينها النفط والكهرباء والبقية تأتي، وآخرها إعلان روسيا بأنها مستعدة للتعاون العسكري مع العراق ولكن بشرط موافقة الولايات المتحدة وكأني بها تريد موافقة رسمية من امريكا باعتبار هذا حقا روسيا غير قابل للنقاش في المستقبل ( على الاقل من الجانب الامريكي ) طالما ان العراق يرغب بذلك . وتعلن من جانب آخر انها مستعدة للمشاركة بإعادة الأعمار والاستقرار الامني لأفغانستان وهو الشيء الذي ما كان في السابق قابلا للحصول لو لم يكن هناك اقرار امريكي بالحاجة الى التعاون الدولي للخروج من مأزقها في المنطقة بعد أن أدركت أن كل الدول المنافسة لها بامكانها ان تصارعها ب( قاعدتها ) الخاصة، أي بنفس السلاح الامريكي السابق .

في ظل هذه الظروف ادركت الولايات المتحدة خطأ حساباتها السابقة التي قرّرت فيها أنها القطب الأوحد الكلّي القدرة في توجيه وادارة الشؤون الدوليّة وأدركت أيضا الخطأ الآخر الذي لم يتطرّق اليه أحد وهو تخلّيها عن الركيزة الأساسيّة في الدفاع عن المصالح الغربيّة وفي المركز منها المصالح الأمريكيّة، وأعني بهذه الركيزة، حزب البعث الذي أثبت عبر مسار طويل إنّه الوسيلة الأكثر فاعليّة في شل إرادة الشعب العراقي والمعوّق الأكبر لمسيرته الاستقلاليّة وخاصة في نصف القرن الفائت وبالتحديد منذ ثورة تموز 58 عبر طروحات الوحدة الفوريّة مع مصر ومحاولاته للتآمر على حكومة الجمهوريّة الاولى وقيامه بالانقلاب في شباط 63 سيء الصيت ومن ثم وقوفه الى جانب السلطات العارفيّة الرجعيّة لقمع نضالات الشعب العراقي السياسية والمطلبية ومن ثم البدء بتصفية القوى الوطنية والديمقراطية عبر تكتيكات ومناورات التفريق بينها وضربها كلا على انفراد وأخيرا إضاعة فرص التطوّر على الشعب العراقي بالانشغال في حروب عديدة لا طائل منها أوصلت البلاد إلى لحظة الاحتلال بعد المعاناة المعروفة من العقوبات الاقتصاديّة الخارجية والمعاناة الأشد ايلاما من الارهاب والاضطهاد الذي كانت سلطة البعث تمارسه في الداخل . ويبدو ان الولايات المتحدة تريد الان ترجمة ادراكها لهذا الخطأ إلى رؤية وخطة جديدة . فهي أولا تريد التخلص من تورّطها في أكثر من جبهة فكان إن قرّرت الخروج من العراق وبالتالي التفرّغ للعمل في أفغانستان فقط، ولكنها تدرك ان خروجها من العراق لن يكون آمنا لأعتبارات عديدة أوّلها أن القوى السياسية الفاعلة في العراق لاترى ضرورة للحفاظ على علاقات مميّزة معها بمعنى الحفاظ النشيط على مصالحها بغض النظر عن المصالح العراقيّة .. ومن المعروف أن الولايات المتحدة كانت تبني رؤيتها للتعامل مع الشأن العراقي انطلاقا من مبدأين الاوّل إن من الخطر على المصالح الغربيّة أن تبقى هذه الكميّة من الاحتياطيات النفطيّة تحت سيطرة دولة واحدة هي العراق، كما صرّح بذلك جورج بوش الأب في عام 91 في محاولة لأعطاء صورة عمّا يريد القيام به في العراق، والمبدأ الثاني ينبع من كون العراق فيه اثنيّات وطوائف عديدة وبالتالي يجب أن يتم النظر الى المبدأ الاوّل من خلال وجود الاقسام الثلاثة في التكوينة العراقيّة وهي السنة والشيعة والأكراد ويمكن لمن يريد ان يطلق لخياله العنان ان يتخيّل إمكانيّة تقسيم البلاد وفق هذا التقسيم السكاني . وبطبيعة الحال فإن هذه الرؤية تتسم بالرعونة لأغفالها التوازن القائم على وجود العراق وتركيا وايران، ثلاث دول قويّة ومستقرّة وأهمية هذا التوازن في استقرار المنطقة برمّتها .. وقد طرح السناتور جوزيف بايدن آنذاك مشروعه المرتكز على هذا التقسيم والتقى فيه، وهو الديمقراطي مع بوش الأب الجمهوري، ولكن كما يبدو فان مصالح الشركات الكبرى لا تأخذ بنظر الأعتبار هذه التشكيلات الحزبيّة . هذا المنطق اللامبالي بمصالح العراق لم يلق قبولا من أي من الاطراف السياسية العراقية فكان ان جرى التوقف عن العمل به بعد ان بدأت الامور تجري وفقا له، حيث القتال الطائفي والقتل على الهوية ومحاولة التطهير الديموغرافي بما ينسجم مع تقسيم مشروع بايدن، حتى بغداد العاصمة كان من المزمع جعل نهر دجلة، هذا الرمز الموحِّد للعراقيين، حدا فاصلا بين طائفتين يقسم بغداد على أساس الاجابة على السؤال القديم " من يجب أن يكون الخليفة الاول بعد وفاة الرسول الكريم" فيما يقبع الأكراد في كردستانهم .

الان وقد قررت الولايات المتحدة الخروج من العراق وان كان جزئيّا فانها تفكّر, بسبب ادراكها لامكانية فقدانها لنفوذها في العراق وامكانية ان تكون تضحياتها وجهودها قد باءت بنتيجة هي أقرب الى الهزيمة، فإنّها تفكر، كما يبدو من مجرى الأحداث هذه الأيام، بإعادة الاعتماد على متعهدها القديم، بقايا البعث، يساعدهم في هذا بعض النوايا الطيبة التي تنطلق من هنا وهناك على لسان بعض القادة السياسيين، وتراخي البعض في مواجهة المخططات الأمريكية، ربما من باب الثقة العالية بالنوايا الأمريكية، وأيضا تساعدهم حصيلة سبع سنوات من المسيرة السياسية وفق الاهداف الديمقراطيّة وهي حصيلة شديدة الهزال خاصة فيما يتعلق بحاجات الناس المعيشية والامنيّة والحقوقيّة . وربما يكون العامل الاكثر اغراءا للامريكان في الايغال بمشروع عودة الاعتماد على بقايا البعث هو تغلغل الكثير من بقاياهم وعناصرهم الى مفاصل الدولة وخاصة الامنية منها ( الداخلية والدفاع ) والى تركيبة بعض الاحزاب التي عانت منهم ايام كانوا يديرون دفة الحكم في العراق وكانت هي في المعارضة . وها هي الجوقة الأمريكية، ممثلة بسفيرها كرستوفر هيل ونائب الرئيس جوزيف بايدن ومن بعيد قائد القوّات الامريكية السابق في العراق الجنرال بترايوس كلها ضغطت باتجاه السماح للبعثيين للتربع على بعض مقاعد البرلمان وربما بالتعاون مع عناصر معروفة بولائها للامريكان يمكن ان يقتربوا أكثر من دائرة السلطة ولا يبقى سوى الانقضاض عليها كدأبهم دائما، عندها يكون الأمريكان قد ضمنوا وجود الحارس الامين على نفوذهم ومصالحهم في العراق والمنطقة

· ورد هذا في مقال للدكتور عبد الخالق حسين تحت عنوان " بلير المنتصر دائما "

أسعد محمد تقي

asaadtaki@yahoo.com

7/2/2010



ليست هناك تعليقات: