الثلاثاء، 1 يونيو 2010


الشاهدُ والنهر


نص : حسن مهدي هادي

الى الأستاذ محي الدين زنكنه .. شاهداً على الزمن الجميل

....وأذكرُ أَنهُ نهر .. وأن اسمه "خريسان". وهو مِلكُ مدينتنا بعقوبه ، مدينة "البرتقال النشيط" الذي يُخرِجهُ خليلُ المعاضيدي من قميصِهِ اليساري.
على أنّ ذكرياتي عن النهرِ لا تُشبهُ ذكرياتِ أبي؛ فلقد كان يتحدث عن أشياءَ أخرى، وكنتُ أصدّقها ، وهذا ما لم يفعلهُ ولدي .. فكذَّبَني!
قلتُ: لديَّ شاهدُ إثبات...
كان يحبُّ النهرَ والحكاياتِ لذا اتخذ منزلاً يطلُّ على النهر، وكانا توأمان لسببٍ بسيط : إن كلاهما ينبعُ من الشمال ويتوسدُ قلبَ المدينة! وكنتُ أحسه يقضي الليلَ يسامرُ النهرَ ويحكي لهُ .. ويحكي ويحكي .. ثم يروحُ يهدهدهُ بمواويلهِ الكرديةِ حتى ينام.
صبيّاً كنتُ، في الرابعة عشرةَ، مع ثلّةٍ من الأصدقاء. نقضي "العصاري" نسيرُ فوقَ كورنيش "خريسان" جيئةً وذهاباً، نتسكعُ ونقطف زهر الآسِ الأبيض، نشمُّ رائحته الحادة، وحين نرميه الى "خريسان" يطفو كزنابق ماءٍ بيضاء. وكنتُ كلّما مررتُ بدارهِ أقفُ قُبالتها متكئاً على سياج الكورنيش الحديدي لعلّي أراهُ خارجاً. كنتُ أتذرعُ بشتّى الحجج لأُطيلَ الوقوف رغم إلحاح بعض الأصدقاء على إكمال "مشي العصاري"
كان ثمة شيء يجذبني نحو توأم النهرِ رغمَ أني لم أتحدّث إليهِ مطلقاً ولم تلتقِ عينانا قط. وأكثر ما كنتُ أطمح اليه أن أراهُ خارجاً من دارهِ عصراً والشمسُ على مسافةِ ذراعٍ أو اثنتين من خط الأفق. عندها أعلمُ أنه قد عاد من العاصمة التي كانت تستولي عليهِ بجرائدها ومسارحها وفنّانيها، فأروحُ أتتبعُ خطوات الماركسي النبيل المربوع القامة ، والذي كان يرتدي دوماً بدلةً وربطةَ عنقٍ وحذاءً من الجلد الأصيل ويروح يسيرُ الهوينى نحو "مقهى الشبيبة"
قال ولدي : وأينَ شاهدكَ هذا الآنَ لأسأله ؟
قلتُ : لا أدري بالضبط ... عليكَ أن تنتظرهُ عندَ النهر ... كما كنتُ أفعل !

ليست هناك تعليقات: