الأحد، 16 مايو 2010

حسين رشيد - البقاء على قيد الموت - قصة




البقاء على قيد الموت

حسين رشيد

1

لم يعد ثمة شيء يستحق البقاء لأجله ,فكل ما حولي أصبح مملا , مقرفا , سمجا , حيث تحولت الحياة إلى كذبة كبيرة نتدولها بالأفراح المبكية والأحزان المضحكة , بالآمال والأحلام , بالألوان البراقة الميتة , ساعة تدور حولنا , كلاب السلطة , وأخرى نرمى بزنزانة عفنة , نقضي بها كل شيء, ساعة ندفع لحرب تافهة حيث تلف أجسادنا بقطعة قماش من عدة ألوان, علينا الموت لأجلها , لتبقى مرفرفة في سماء وطن يبكي , ساعة نتخلص من كل ذلك لكن أمواج بحر اخرق تتقاذفنا, واسماك قرش تمزق ما تبقّى لنا من لحم , لتحين ساعة أخرى نعلن بها العودة إلى الحياة ,لكن الفتوى الشرعية أبت ذلك ,فنرمى على حافة الطرق مقطوعي الرؤوس, كل هذا وذاك دفعني إلى أن اذهب, إلى جارنا البزاز طالبا منه أن يبيعني كفنا, نظر لي بازدراء , متسائلا لمن الكفن؟ . لي أنا . لكنه رد مستهزئا لابد انك سكران كعادتك. هذا ليس من شانك . اعطني الكفن , أعطيته النقود بعد ان ذرع لي أمتارا عدة من خامة بيضاء وعلامات التعجب على وجهه وهو يردد أن لم يكن سكرانا فقد تلبسه خبل ..

قادتني قدماي صوب صديقي الخطاط الذي تحسن عمله كثيرا ,طلبت منه أن يكتب لي نعيا , أمسك الفرشاة واتجه الى قطعة القماش السوداء , متسائلا لمن النعي , لكنه لم يكن أفضل من البزاز, حين سمع جوابي . رد علي بكل هدوء لابد أنك تمزح وهذه واحدة من ألاعيبك ,هل حدث لعقلك شيء أو ماذا لا لا لابد انك تمزح . لأعليك من كل ذلك , اكتب الإعلان ودعني اذهب , قبضت بيدي على القطعة السوداء , متجها صوب عيادة صديقي طبيب الأسنان الذي ادمنا بوح همومنا عنده وتناول فنجان القهوة ,في ذلك اليوم لم يأت سوى أستاذ سليمان تبادلنا الأحاديث اليومية المملة , حتى حانت ساعة المغادرة اذ تمنى كل منا للاخر سنة جديدة تكون أفضل من سابقتها أو اقل سوءا منها .

2

الليل بدأ يرمي بسكونه وظلامه على المدينة الحزينة البائسة, الأوساخ تملأ الشوارع المظلمة الخالية ألا من بعض الكلاب التي تبحث في بقايا ما يتركه الجزارون0 وصلت الى مدخل السوق حيث جدار تعليق إعلانات الوفاة لم أجد مكانا بسهولة فقد كان الجدار ممتلئا أنزلت البعض لطول فترة بقائه وثبتت إعلان موتي بدلا منه0 نظرت أليه ,قرأته عدة مرات, جميل ويلفت الأنظار , صوت المؤذن ينطلق من مئذنة مسجد قريب يدعو لصلاة العشاء, حيث سرت نحوه بخطى ثقلية مترنحة وكأني احمل فوق ظهري ثقلا كبير ,ها قد أتموا الصلاة , تقدمت بحذر من إمام الجامع,طالبا منه أن يعطيني تابوتا . باديء الامر رفض , لكنّه بعد الحاحي عليه , وافق لكن , بتامين , أعطيته بطاقتي الشخصية!,أمسكها قائلا0 عندما ترجع التابوت أعطيك إياها 0بيني وبين نفسي ( يالك من غبي ومن يرجعه لك؟) , وحين أردت تابوتا خفيفا , نظر لي بلؤم وخبث , وأشار إلى تابوت متكسر وعتيق ومن غير غطاء ,ولما حاولت إبداله دخلت مجموعة من الملتحين الشباب مرتدين دشاديش قصيرة وقطعة بيضاء فوق رؤوسهم والشر يتقافز من أعينهم, أسرعت بالرحيل بعد أن حملت التابوت فوق راسي لكن نظراتهم ظلت تطاردني ليطرق سمعي قول احدهم انه هو لابد أن ينال عقابه على تناوله الخمرة. وهذا ما أكده أمام الجامع مضيفا انه فاسق أيضا .ظلت كلماته تدور في راسي ماذا يقصدان , وأي عقاب ذاك الذي تكلم عنه ولماذا؟ يا الهي نجني من هولاء ؟!!. ترى ماذا يفعل إذا علم بعلاقتي مع زوجته ؟

3

قبل ذلك كنت قد عرّجت على دارنا وأحضرت ما تبقى من زجاجة الخمر وبعض الصور لنساء جميلات وممثلات شهيرات, في وسط ذلك الليل الكانوني البارد وبعد ان انتهت احتفالات العالم براس السنة الجديدة أردت توديع العالم والرحيل الى عالم السكون والهدوء والنوم من غير أفاقة على صوت صراخ أو بكاء أو دعوة للذهاب في جنازة أو حضور مراسم عزاء أريد التخلص من الاختباء والترقب أردت التحرر من كل شي وأي شيء أردت النوم عاريا والسير سكران, أردت التخلص من عيون تلاحقني وتترصدني , أردت التخلص من فشلي في الحب , في ذلك الليل وأنا أسير الى المقبرة التي تقع في مدخل المدينة الجنوبي كانت قطرات الندى تتساقط بخفة ورشاقة وغيوم متقطعة تحجب القمر تارة والنجوم تارة أخرى كان فرحي يزداد كلما اقتربت من المقبرة حتى وصلت مشارفها وفي لحظة دخولي انتابني خوف ملأ صدري لكني واصلت السير ونعشي فوق رأسي … أردت الموت بإرادتي دون أن يقتلني احد .

بقيت أتجول في المقبرة بحثا عن مكان خال حتى وجدته أنزلت النعش وجلست استريح بعد ان نال مني الخوف والتعب الشيء الكثير فتحت زجاجة الخمرة وأخذت ارتشف منها وأنا اقلب الصور , وأتكلم بصوت مسموع عن أي شيء وكل شيء شتمت كل الذين قيدوني وحرموني من متعتي أخذت حريتي بكل شي وأصدقائي الجدد من حولي صامتون ,طفل في العاشرة فقد حياته لعدم وجود الدواء لمرضه , شاب وسيم مات غرقا واخر شهيد لحرب هوجاء, سيدة فاضلة كانت قد درستني في الابتدائية, رجل ستيني مات ثملا, عجوز كانت في ما مضى عاهرة والله يغفر الذنوب, شابة انتحرت بعد ان رفض أهلها زواجها من حبيبها , قدمت لهم نفسي وعرفتهم بي.

4

الليل يسير نحو الفجر والصمت والسكون يخيمان على المكان والبرد يزداد والسماء تمتلئ بغيوم ممطرة والخمرة بدأت تدور في رأسي0 وإذا بصوت مطرقة ورجلين يتكلمان بينهما . يا الهي ارتعبت وارتجفت كل أطرافي خوفا وبردا ترقبت الصوت ومصدره وإذا برجلين يحاولان سرقة قطعة المرمر التي يكتب عليها اسم الميت عادة وتوضع في مقدمة القبر , الفجر يقترب لكن كيف أنهي مهمتي وقد نسيت ان اجلب المجرفة ؟. الرجلان مشغولان بالسرقة. بدأت الحفر بيدي وبقطعة معدن صغيرة كانت قرب أحد القبور0 لكن البرد جمد أصابعي , الأرض كانت رطبة ومبتلة وقطرات الندى تحولت الى حبات مطر خفيفة وصوت الرعد والبرق وحركة الغيوم كلها تمهد لزخات مطر. انتهى الرجلان من سرقة القطعة وهما بالخروج مسرعين جاءتني فكرة ان العب معهم قليلا, صرخت بهما توقفا تجمد كل واحد منهما في مكانه, قلدت صوت ذئب ثم صوت بوم رميتهما بالحجارة وهما واقفان يرتجفان رعبا وبردا لم أتمالك نفسي من الضحك الذي طرد الخوف والرعب والبرد, ملامح يوم جديد بدأت تلوح وصوت مؤذن يدعو الناس الى الصلاة في لذة النوم , الرجلان كانا يدمدمان بكلمات تكبير وصلاة على النبي وقراءة آيات قرآنية حتى أوشكا على ختم القران, صرخت بهما اتركا كل شيء واذهبا ولا أريد رؤيتكما هنا , اخذ البرد يلسع جسدي , بحثت حولي عن حطب لم أجد ألا بعض أعواد العاقول لكن كيف أشعلها ؟ الجو يزداد برودة أخرجت الكفن وتلفلفت به لكنه لم يقني البرد الذي اشتد مع الفجر واخذ ينهش عظامي.

5

ذهبت الى مكان الرجلين وقد تركا مطرقة ومسمارا كبيرا وقطعة المرمر ومن شدة الخوف افرغا ما في جيوبهما من نقود قليلة لكن كل هذا لا يهمني فأنا ابحث عن شيء أخر , علبة الثقاب والسجائر ها قد وجدتهما , عدت مسرعا الى مكاني لكني تعثرت بالكفن وسقطت في بركة من الماء والطين أشعلت أعواد العاقول لكنها سرعان ما احترقت بحثت عن شيء أخر أتدفأ به لم أجد شيئا وما من شجرة في كل أرجاء المقبرة . ملامح يوم جديد وخيوط بزوغ فجر تلوح وأنا أتجمد وأكاد أموت من البرد! لم يبق أمامي سوى التابوت بدأت تكسيره وإشعاله وسط الحفرة كان بودي ان اجلس في وسط النار من شدة البرد وبعد دقائق سار الدم في عروقي والدفء ينعشني وأنا متكئ على قبر أخذتني غفوة نوم بعد سهر وبرد وخوف. نسمات هواء باردة وأشعة شمس خجلة صوت عصافير تزغرد, أبواق سيارات . تململت وجدتني متلفلفا بالكفن والتابوت محترق الا من مقدمته التي كتب عليها وقف المرحوم الشهيد البطل فلان الفلاني . نظرت من حولي وما أنا به ,جمعت الصور الجنسية وزجاجة الخمرة والكفن ,خرجت مسرعا من المقبرة . كان كل من يراني يندهش وينبهر من حالتي وصلت ألي مكان تعليق الإعلان بعض الناس يقرؤونه ويقولون ليرحمه الله والأخر بالعكس والبعض الأخر يسير من غير تعليق وقفت وقرأت النعي ,أنزلت القطعة ومزقتها والناس ينظرون متعجبين, وصلت ألي داري وإذا جمع من الناس منتظرين قدوم الجنازة وأحاديث تدور بينهم كيف مات ومن علق النعي وأين الجثة ؟ كان صديقي الخطاط يحكي لهم عما حصل بيننا كما أن البزاز كان موجودا وحكى عما حصل معه ,صديقي الدكتور مستغربا الأمر لقد كان معنا في المساء وتناولنا القهوة التي اعتدنا شربها من يده ,الأستاذ سليمان يجهش بالبكاء مرددا اخبروني كيف مات, وأصدقاء آخرون يواسي بعضهم الأخر , كانت نساء المحلة قد جئن على عجل للبكاء والعويل والنوح ومشاركة أهلي عزاءهم , كنت أود ان أرى حبيبتي التي خاصمتني كيف هي ألان؟ . اخترقت التجمع بهدوء وأديت التحية ليقف الجميع مندهشين, دموع وضحك وتعجب وفرح كلها اختلطت ببعض وزغاريد نساء وصفير الصغار عندها عرفت الحياة وطعمها وحلاوتها رغم كل آلامها وأحزانها وقررت الفوز بها وعدم الهروب ثانية. مضى النهار وعاد كل شيء الى حاله وعند المساء عرّجت على عيادة صديقي الدكتور وتناولنا فنجان القهوة وهو يقول مازحا إذا مت فمن الذي يعمل لنا القهوة وعلت ابتسامات على وجوه كل الأصدقاء. ولكن ما هذا الكيس الذي تحمله هذا ما قاله صديقي الخطاط . أجبته أنها زجاجة خمرة سأعطيها ألي ابن أمام المسجد ليأتيني ببطاقتي الشخصية من عند أبيه ...

Hasan_rr2002YAHOO.COM



ليست هناك تعليقات: