السبت، 15 مايو 2010

سليمان البكري-رجال في ليل المدينة-رواية

رجال
في ليل المدينة

روايـة

سليمان البكــــري


تنويه
لا علاقة لأبطال هذه الرواية بأي أشخاص حقيقيين ، وإن حدث الشبه بينهم وبين بعض الأشخاص فالأمر لا يتعدى كونه إطاراً منطلقه إعجابي وانبهاري بهؤلاء الأشخاص لأنهم يشكلون نماذج مستثناة ومتفردة في الواقع العراقي مطلع الستينات .. حيث تقع أحداث الرواية.
سليمان البكري

" تكون معي "
"لأن الليالي تئن على ساكنيها
تكون معي
هنا بين نهرٍ ونهر
وما بين صيفٍ وصيف
تكون معي
إذا غادَرَتنا الفصاحة
واحتار فينا الطريق
تكون معي
شبيهاً بوعد الحياة الحكيمة
شبيهاً بلون العراق "



الساعة المعلقة على جدار القاعة الرصاصي تعلن العاشرة. قلبت "همنغواي" على المنضدة وامتدت يدي لتناول لفافة تبغ.صورة الشيخ "سانتياغو" تطالعني وهو يسحب بقايا سمكته الكبيرة. قلت لكمال الذي يجلس بجانبي يقرأ "الأم" :
-حقاً "قد يتحطم الإنسان لكنه لا يهزم "
وأشرت الى كتاب " الشيخ والبحر "
توقف كمال لحظة عن القراءة وابتسم بصمت وهو ينظر نحوي. نفثت نفساً دخانيا وأنا أتطلع الى السيكارة وهي تحترق بين أصابعي وفكرت بالاجتماع القادم بعد غد . لا بد أن رفاقنا فكروا به ولو مرة واحدة. تقت اللحظة الى قدح شاي وأنا أرى عامل المكتبة العامة يحمل صينية نضدت عليها أقداح الشاي. همست بكمال :
- أدعوك لشاي طازج من المقهى المجاور للمكتبة.
رفض كمال دعوتي بوقار كاذب مشيراً الى كتابه.
-"بافل" يرفض.
واستمر يقرأ في "أم" مكسيم غوركي.
عدت أفكر بالاجتماع : هل سترتفع الأصوات خلال النقاش ؟ وهل سأطلب من الرفاق الهدوء شأني كل مرة ؟
سقطت نظرتي على ساعة المكتبة فلم أجدها قد تحركت كثيراً. ومن وراء النافذة تطاولت أشجار الأثل بصمتٍ حزين. نظرت الى كمال وسألته:
-هل "الأشجار تموت واقفة" أم مستلقية ؟
اغلق كمال "الأم" وبدا على وجهه شيء من الغضب.
-لماذا لا تتركني اقرأ ؟
-خذ قليلاً من الراحة ، نحن نقرأ منذ ساعتين .
أشار بيده نحو لافتة موضوعة على الجدار.
-أنظر هناك.
تطلعت باتجاه يده.
-الكلام ممنوع رجاء
همست :
-لكنني لا أسبب إزعاجاً.
-بالعكس ، أنت تزعجني.
ابتسمت له ثم صمتُّ.
ما يزال أمامنا وقت كثير لنغادر المكتبة ، وقراءة ساعتين بدون انقطاع قد أتعبتني. نهضت وقلت لكمال :
-أتمشى قليلاً في الحديقة.
هز كمال رأسه موافقاً.
في الصالة طالعني وجه موظفة المكتبة الأسمر وراء الشباك وعيناها تختفيان وراء نظارة سوداء وهي تسجل إعارة كتاب لفتى مراهق. وكان الفتى يلتهم ساقها التي انحسرت عنه تنورتها قليلاً بنظراتٍ جنسية شبقة. مررت بجانبه. ارتبك كتلميذ صغير ضبط في عملية غش وقت الامتحان.
رأيت وجهي في زجاجة الباب المستطيلة ولاح أن عينيّ حمراوان. خلفت الكتب والمجلات ورائي واحتضنتني خضرة الحديقة وأزهارها الشتائية مسربلة في خطوط مستقيمة ومنكسرة تنكمش فوق التربة السمراء.
شعرت براحة مفاجئة وأنا أتطلع الى ألوان الأزهار المختلفة ، وتمطت الأفكار في رأسي. كنت أجهل أهمية أفكاري للحزب. والنضال ينعش الأفكار ، إلا أن الأيام تفقد ذاكرتها أحياناً. لكن الحزب هو الحقيقة وأنا أحمل أفكار الحزب وأعيش لها وأيامنا تتفتح للنضال ساعة ولدنا، ساعة انتمينا للحزب.
مدينتنا يحيطها الهواء البارد خارج أسوار الحديقة. والناس فيها يلجأون الى المدافئ. والساعات القادمة مهمة يجب اجتيازها بروح رفاقية والوصول الى القرار الصحيح هو ما أبغيه… التنفيذ بدون خسائر أو بأقل خسائر ممكنة.
ذلك هو شعاري دائماً وأنا أجابه العديد من المهام النضالية . إن أعز شيء لدي هم رفاقي، هم الحزب ، أعرفهم بفكري ، أعرفهم بقلبي .
أمس زارني أحد الرفاق ، قال بودّ :
-عندما تسوء حالتي النفسية ألجأ إليك.
قلت مداعباً :
-هل أصابك الغثيان من جديد ؟
-مفوض الأمن يراقبني باستمرار.
-إننا نتشابه يا عزيزي ، لا تبتئس.
أمن الممكن القول لرفيق جاء دورك الآن. أدخل بقدميك السجن . لقد مارسنا النضال طويلاً وأصبح لدينا ما يؤكد الحاسة السادسة من توقعات صحيحة للنتائج.
قال رفيقي بلوعة :
-سامي .. لا أدري لِمَ أتوجس شرّا من هذا المفوض.
قلت أطمئنه :
-ليس هو الموت . إنه مفوض فقط.
بطن مندلقة الى الأمام، موثقة بحزام عريض تتربع على ساقين قصيرتين يخفيهما بنطلون كاكي عريض ووجه مجدور حذر يملأ وسطه شارب كث تساقطت نهايتاه على جانبي فتحة الفم الواسعة. ورأس صغير يخفي صلعةً واسعةً تحت سدارة فضفاضة قديمة.
واصل الرفيق قوله:
-أحس به يتآمر علينا.
قلت محاولاً إبعاد هذا الشبح وإننا واعون لكل شيء.
-السلطة كلها تتآمر.
تكلم رفيقي بانفعال ظاهر. وأصغيت له طويلاً. اجتاحني الصمت وأنا أحدق في وجهه المنفعل . وجه خائف، حذر، حزين. أحياناً تعطي بعض العمليات مردوداً عكسياً. ومدينتنا الصغيرة يتصاعد غبار شوارعها حين مرور وسائط النقل فيها وأنا أرقبها اللحظة عبر سور الحديقة الواطئ.
عدت أدراجي الى قاعة المطالعة وبدأ بعض القراء يتركون ما في يديهم ويتجاذبون أطراف الحديث بهمس في حين ما زال "مكسيم غوركي" يتلاعب بأفكار كمال.
قلت بلهجة ود وأمر :
-حان وقت ذهابنا ، إنهض.
نظر كمال في ساعة يده.
-ما يزال أمامنا ساعة.
-أشعر بقلق وضجر. هيا نحرك أقدامنا في الشارع.
نهض كمال من كرسيه وقال مبتسما :
-بدأت تقلق كوالدة "بافل".
وأشار الى رواية " الأم ".
-هيا ، لا تتفلسف.
تركنا المكتبة وتحركنا باتجاه الشمس. الجو مشبع ببرودة جافة جعلت كمال يرفع ياقة معطفه الى الأعلى.
-أين نذهب ؟
أشرت بيدي نحو الأمام.
-الى مقهى النصر.
ضوء الشمس وحركة الشارع وسيري بمحاذاة كمال جعلني اشعر بانشراح وكان قدح الشاي الذي ينتظرني في المقهى سبباً في جعلي استحث خطى كمال في السير. دخلنا المقهى وتريثت نظراتي عند الزاوية المجاورة لموقد الشاي. كان رحّومي وأسامة منهمكين في لعبة الشطرنج كعادتهما. جلسنا على تخت مجاور لهما. أصوات قطع الدومينو تُسمع بوضوح من المنضدة القريبة.
وجه الأسطى عباس صاحب المقهى يشغل مكاناً واسعاً وراء منضدة صغيرة في المدخل قبع خلفها في حين راحت يده تحرك الخردة التي ملأت كيساً من القماش الأبيض المتسخ بفعل الاستعمال. كان الأسطى عباس يتعاطف مع الحركة الوطنية وله تاريخ حافل بمساعدة المناضلين.
انطلق صوته كقذيفة :
-إبني حمّودي ، شاي "تازة" للجماعة.
وأشار للعامل باتجاهنا.
بعد قليل نهض من وراء منضدته واتجه الينا . نظر الى الشارع من وراء زجاج المقهى ثم تقدم نحونا. وضع فمه قرب أذني.
-هل الإشاعة صحيحة ؟
-أية إشاعة ؟
-إبعاد محمد وجماعته الى العمارة.
-نعم صحيحة.
قال بتعجب وغيظ :
-عدالة !
جاء صوت من منضدة الدومينو:
-شيش بيش !
انسحب الأسطى عباس الى مكانه.
صورة محمد ورفاقه المبعدين الى العمارة ، تلك المدينة النائية الموغلة في البعد جنوباً تنعكس في قدح الشاي الذي وضعه عامل المقهى أمامي. هم الآن في طريقهم الى المنفى، الى الإقامة الجبرية، ونحن هنا نحتسي شاياً ساخناً.
رشفت الشاي بصورة ميكانيكية دون التفكير بجودته أو رداءته. ولم يستطع قدح الشاي أن يبدد كآبتي الحقيقية التي صفعتني بها كلمات الأسطى عباس.
رفيقي محمد ، رفاقنا خالد ومهدي وغانم. أجل رفاقنا. سيأتي الليل على مدينتنا الصغيرة لتكونوا جميعاً كلمات نضالية في أفواه المجتمعين ، وسوف نداري تعاستنا وفشلنا بتبريرات بائسة، جاهزة، ونعاود شرب أقداح الشاي. إني أهرم بالأخطاء التي تقع في مدينتنا من رفاقٍ يُفتَرض فيهم الإدراك والنضج.
ما ترانا سنفعل باجتماع بعد غد ؟
امتدت يد كمال الى كتفي بحركة خفيفة مفاجئة.
-أين وصلت ؟
ابتسمت بإشفاق
-ما زلنا في مدينتنا. الأسطى عباس أثار في نفسي آلاماً مبرحة.
-تقصد محمد ، خالد ، مهدي ..
-نعم.
-لا تبتئس. إنه طريق النضال.
كان لكلماته وقع أشبه بضربة مطرقة تنهال فوق رأسي .
-نعطي رفاقنا للسجون والمنفى دون مقابل.
قال كمال باهتمام:
-ولمَ دون مقابل ؟
تحفزت غاضباً
-ما الذي فعله رفاقنا لتبعدهم السلطة عن المدينة ؟
-…
-لماذا تصمت ؟ ذهبوا ضحية تقارير ملفقة .
رد كمال بهدوء:
-هذا خط السلطة العام على مستوى العراق.
قلتُ بحرقة:
-وأين خط الحزب ؟ هل كان الصمت سياسته يوماً ؟ يبدو أن حزبنا يتبع سياسة الأمر الواقع. لماذا لم نفعل شيئاً ؟
ابتسم بإخاء .
-هل هذا احتجاج ضد سياسة الحزب ؟
نفيتُ ذلك بشدة.
-مؤكد لا. لكني أدعو الى ضمان سلامة رفاقنا.
-هل تتصور أن الحزب يفرط بهم ؟
-لا بد من إنقاذهم.
-نحن متفقان ، لكن السلطة ..
-يجب إحباط مؤامراتها.
-وهذا رأيي أيضاً.
-لكن في واقع حياتنا اليومية ، الحزب لم يتحرك عند إبعاد رفاقنا.
-الحزب لا يملك سلطة.
-لم تفهمني .. أقصد أن اتهام الأبرياء وتلفيق تقارير مزورة يعقبها سجن أو إبعاد رفاق جيدين ، لم يكن هذا هينا. على الحزب أن يعالج هذا الوضع بسرعة.
-كيف ؟
-استعمال وسائل مضادة مع الأعداء.
-ماذا تعني ؟
-العنف الثوري.
-مع السلطة ؟
-طبعاً ، ومع أداتها الرجعية.
-أنت تطلب الكثير.
-بل هذا تحفظ من الحزب وتفريط في مناضليه.
-هل حديثك محاكمة للحزب ؟
صدمت لهذا السؤال ، واجتاحنا صمتٌ متعِب. أكان ينبغي أن أسرف في أقوالي ؟ أنا أبحث عن سلامة رفاقي. لستُ دعيّا مجرَّداً من الحس الثوري. حياتي كلها للحزب وللثورة. غير أننا يجب أن نسلك الطريق الصحيح ونتجاوز الحلول السهلة.
نهض رحومي وأسامة واتخذا مكاناً بجوارنا. قال أسامة هازئاً :
-مات الزعيم .. أقصد مات الملك.
قال رحومي وهو يدسّ ورقة بيد أسامة :
-صوتك مرتفع.
نظر كمال الى رحومي بغضب.
-ليس في المقهى. إحذر من هذا السلوك.
وكان يقصد المنشور الذي سلمه الى أسامة. قدم رحومي سيكارة لكمال ، وانفرجت فتحة الباب ليدخل أحد رجال الأمن.
قال أسامة :
-صيد دسم .
ارتجفت يده وهي تمسك بالمنشور ودسه بعصبية في جيبه. تساءل رحومي مبدداً صمت اللحظة الثقيل:
-أتلعبون الشطرنج ؟
رفض كمال
-لا أجيد اللعب.
قلت :
-لماذا لا نتحدث ؟
-عن أي شيء ؟
-عن رفاقنا.
-الجميع يتحدثون عن هذه القضية.
سأل أسامة:
-هل هي خطة الحزب في إثارة الناس ؟
-ليست إثارة بل قضية.
قال رحومي :
-كل قضية معرضة للمراجعة.
رد كمال :
-من الأفضل رؤية الأشياء كما هي ، لا كما تراها.
احتدم رحومي :
-كيف أراها ؟ هل تنقصني الرؤيا لمعرفة الحقائق ؟ تهاون التنظيم في مدينتنا سبب وقوع الأخطاء.
استاء كمال :
-لم يحاول التنظيم أن يكون دكتاتوراً يوجه الآخرين.
-أهذه فكرتك عن التنظيم ؟
قال أسامة بهدوء :
-إذا استمر الوضع بهذا الشكل قد لا نجد من يقف معنا.
-التنظيم في المدينة جزء من الحزب على مستوى عام.
زفر رحومي :
-نحن كهوف حقيقية تصلح للاختباء.
-نسير ولا ندري الى أين.
ارتفع صوت كمال:
-هذا تخاذل.
قطعت الطريق على موقف انفعال بدأ يتنامى :
-نريد أن نحيا مناضلين حقيقيين ، والحزب أملنا في الحياة ونحن فيه أعزاء الجانب.
تطلعت الى رجل الأمن الذي قبع في زاوية بعيدة محاولاً جعل رواد المقهى يقعون تحت نظره ليسهل عليه رصد الجميع. تربع فوق التخت بشكل مقرف وراح ينفث أنفاساً دخانية كثيفة من نركيلته. أشار رحومي إليه :
-سيلتهب بعد قليل.
انفلتنا خارج المقهى. عينا رجل الأمن تلتصق بظهورنا. غبنا وراء الحاجز الزجاجي مخلفين وراءنا الضوضاء والدخان وعيون السلطة.
***
الشمس تغسل بضوئها سطوح المدينة وتغرق الشارع العام بارتعاشات نورها. رياح الخريف تجلد وجوه المارة والطريق يتلوى أمامنا ممتداً باهت اللون تموت على مسافة بعيدة منه "قنطرة الإنكليز" حيث ينحدر باتجاه الثانوية. جدار البستان المحاذي موحش قديم تتكسر عليه ظلال النخيل والأشجار الدائمة الخضرة.
هبت نسمة باردة لدى عبورنا القنطرة فأحكم أسامة غلق أزرار معطفه وارتفع من البستان نباح كلب عكر صمتنا ، نباح فيه حرقة وتوجع. علت شفتي أسامة ابتسامة شاحبة أماطت اللثام عن أسنانه البيضاء.
-يبحث عن أنثى.
قال كمال ببرود :
-أصبحت خبيراً في الأصوات.
رد أسامة بود :
-من منا لم يبحث عن أنثى ؟
سخر كمال :
-إنك رجل فذ يا أسامة.
تشرب وجه أسامة بحمرة أضفت عليه لوناً قاسياً. قلت مبدداً كآبة أسامة :
-تكون المرأة عنصراً فعالاً في قضايا النضال.
انحنى الشارع أمامنا قرب مبنى رعاية الأمومة والطفولة.
وجوار معهد الفنون الجميلة كان الشارع ينحني أيضاً. انتظر نادية في موقف الباص القريب. طالب وطالبة، نقرأ لافتات الشوارع ونتلوى في المحلات العامة. نحمل صحف اليسار، نناضل، نشترك في المظاهرات، نوزع المنشورات، ما عدنا نرى النزهات ولا أفلام الساعة الواحدة يوم الجمعة. لم نكن نبحث عن مستقبلنا ولا دراستنا. كنا نتكلم باستمرار عن الحزب. ذلك هو مستقبلنا وعالمنا. وفي شوارع العاصمة تنبثق القصائد وصوت مغنٍ يصدح في المذياع:
" وطني الخالد ، أشعار تغنى
تحمل الإبداع والروعة منا
وطني أرض الرجولة
أرض أرباب البطولة …."
نجتاز المكان مخلفين وراءنا صوت المطرب يتدفق بثراء، وتقرأ نادية قصيدة الشاعر الزنجي "لانكستون هيوز"
" الديمقراطية لا تأتي
اليوم ولا السنة
ولن تأتي عن طريق
الخوف والتراجع"
ويكسو وجهها حزن صامت
-ما بك يا نادية ؟
-ستوقف السلطة إذاعة هذه الأغنية.
نعم يا حبيبتي .. العسكرتاريا هي الانكسار المتوارث في الثورات الوطنية، تزحف بوسائلها لتفترس نضال الجماهير وتقبع فوق كراسي الحكم. منعوا أغنية تمجد وحدة العرب والأكراد. وسيضعون أغنيتك فوق رفوف إذاعتهم العالية ، فماذا ستقول صفحات الفن في جرائدنا ؟

نبهني صوت رحومي:
-أين الدار ؟ في اليسار أم في اليمين؟
قلت بلهفة :
-اليسار.
دلفنا الى الداخل وأشرت الى أسامة نحو غرفة الضيوف. ساحة البيت مملوءة بضوء الشمس الذي اتخذ شكلها الرباعي ينبعث منه الدفء والحرارة.
قلت لنادية:
-لدينا ضيوف.
-من ؟
-كمال ، أسامة ، ورحومي.
* * *
انسحب ضوء الشمس من باحة الدار فشكل مستطيلاً كبيراً فوق الجدار المقابل للغرفة التي كنت أجلس فيها. القلق يساورني ولم يستطع عباقرة الفكر المنضدون أمامي في المكتبة ان يخرجوني من دوامة أفكاري. نظرت الى الساعة. دخلت نادية تحمل كراسات طالباتها لتصحيحها. جلست قرب المذياع.
-تأخرت عن الخروج على غير عادتك.
ولعتُ سيكارة وقدمت لها.
-شكراً . تعلم أني لا أدخن.
داعبتها قليلاً :
-لتلطيف الجو. الغيوم تتجمع في سماء مدينتنا.
-وقد تمطر.
-رحلت الأمطار منذ زمن. نحن في موسم القحط.
-سامي .. هل تشكو من متاعب ؟
اختفى وجهها وراء نفثة دخانية واسعة. لحظة واحدة وانتشر الدخان لتعود من جديد. نادية تفهمني ؛ إنها زوجتي. شريكتي في النضال. مالكة مشاعري وأحاسيسي. رفيقة الدرب الطويل. مسؤولة الخط النسائي في التنظيم. يقودني تساؤلها لنقاش موضوع الاجتماع المقرر عقده مساء غد.
-كيف تنظرين الى الاجتماع ؟
بدون أن ترفع وجهها عن كراسة الامتحان:
-أنظر إليه بعينين.
-ليس وقت الهزل الآن.
رفعت رأسها ، ابتسمت.
-ماذا تريد أن تقول ؟
-أصغي إليّ يا نادية باعتبارك مشاركة في مسؤولية التنظيم. تنفيذ أوامر الحزب يجب أن يتم بمهارة وذكاء وليس مجرد استعراض. نحن أمام مهام تاريخية.
-يبدو عليك التردد.
-ليس تردداً بمقدار ما هو انتباه. إني أنظر الى رفاقي قبل أن أنظر الى نفسي.
جاء صوتها مخلصاً :
-ماذا تقترح ؟
-نؤجل العملية الى وقتٍ آخر.
-لماذا ؟
-بسبب تنمر السلطة وحفاظاً على رفاقنا.
صمتنا فترة كنت خلالها أسمع صوت القلم يتحرك برشاقة فوق أوراق الكراسات .. قلت بضجر :
-المدينة ملغومة برجال الأمن والاستخبارات.
-هل الأمن والاستخبارات سبب كافٍ لعدم التنفيذ ؟
-سبب من مجموعة الأسباب.
ترنحت الأوراق بين يديها. سقط بعضها على الأرض ، أعادتها ثانية.
يحضرني قول مناضل ثوري " إن البراكين المتعَبة تستيقظ دائماً عندما تموت الصخور " وأتساءل في أعماقي: من هم البراكين ؟ ومن هم الصخور؟ وهل رفاقنا براكين حقاً؟ وهل الحزب يقدّر قوة بركانه؟ تساؤلات شرعية تصطرع في داخلي ..
لماذا يصر الحزب دائماً على عمليات كالتي جاء أمر تنفيذها ؟
* * *
في مديرية الأمن جلس مأمور المركز وراء منضدته يتصفح مجموعة من التقارير اليومية عن الحالة السياسية لمدينة "ش" وتحركات "المشبوهين" معتنقي "المبادئ الهدامة" فيها.
الوجه ينضح بالحقد. نهض. اتجه الى أحد الرفوف: ملفات مكدسة، نظيفة، متربة. يلتقط إحداها. يعود الى جلسته، يفتح الملف، يضع فيه أحد التقارير، يغلقه.
طرقٌ على الباب.
-أدخل.
يدخل شرطي الأمن، يؤدي التحية بانفعال.
- سيدي تفضل.
يضع ورقة أمامه. يأخذها، يقرأ، فترة صمت .. ينتهي من القراءة.
- ألم تسمع شيئا من حديثهم؟
- كلا سيدي.
- غبي.
- ……
- ما فائدة تقريرك الرديء؟
- سيدي كانوا مجتمعين.
- أفهم. ولكن ماذا دار في الاجتماع؟
- ….
- ألم أقل غبي .. كلكم متشابهون.
- …….
- إسمع : في المرة القادمة سأعاقبك على مثل هذه التقارير. أريد تقارير حقيقية تكشف خططهم ، نواياهم ، أعمالهم. أتفهم ؟
- نعم سيدي.
ويعيد مأمور المركز قراءة التقرير.
- مع ذلك لا يخلو من فائدة : "سامي ، كمال ، رحومي ، أسامة اجتمعوا اليوم في مقهى النصر" … مشبوهون ، هدامون.
مد يده الى علبة السكائر الملقاة أمامه ، أخذ واحدة ، أشعلها ، امتص نفساً عميقاً.
- تستطيع الانصراف وافتح عينيك جيداً. أريد عملاً نشطاً لا روتيناً بائساً.
- أمرك سيدي.
رفع شرطي الأمن يده بتحية متوترة وضرب قدمه في أرض الغرفة محدثاً ضجيجاً. أدار ظهره وتحرك نحو الباب ، فتحه بحذر وقذف نفسه في الهواء البارد.
نهض مأمور المركز ليقدم التقرير الى معاون الأمن ….
* * *
تحركتُ في منحنيات مدينتنا. زقاقٌ يوصلني لآخر. المشهد يتكرر : بيوت قديمة تساقطت أجزاء من جدرانها، صفيحٌ صدئ، خشبٌ متآكل، مقابر لا تنتهي.
اتجهت نحو النهر. سرت بمحاذاته متتبعاً رؤوس الأشجار المطلة من فوق الحاجز الطيني لجدار البستان. طافت في المكان رائحة الأشجار الدائمة الخضرة وعبيرها الذكي وأنا أحمل مهمة إقناع الرفيق سلام بالوقوف معي في الاجتماع.
تركت المدينة ورائي. أوغل في التقدم نحو قرية الرفيق سلام القريبة من المدينة تغفو بأمان اللحظة على جانب النهر. وأنا محاط بالماء والأشجار ووجه نادية يطل عبر الماضي.
- سامي. أتؤمن بمطاردة الأشجار؟
- نعم . والوجه الجميل.
تورد وجهها.
- الاثنان معي.
نادية في غاية السعادة ونحن نحلق في عالمنا الرائع. الطلاب يرقصون، يغنون. والمكان مملوء بالسحر وروعة الطبيعة. قالت نادية:
- سفرة طلابية بديعة.
- أنتِ الأبدع والأروع.
ابتسمت بحب.
- اقتصد في الإطراء.
- أبداُ وحقك. أنتِ أجمل وأحلى ما تعي الذاكرة.
- هل بدأ الشعر؟
- يعجبك؟
- بالتأكيد.
- إذن اسمعي :
" عيناك من شدة عمقهما
رأيت فيهما وأنا أنحني لأشرب
كل الشموس تنعكس .
عيناك من شدة عمقهما ..
أضعت فيهما ذاكرتي "
- ما اسم هذه القصيدة ؟
- "عيون الزا" لـ "أراغون"
قالت بجفاءٍ حلو :
- الزا ؟ أريد قصيدة لي وحدي.
- حسناً :
إن أتتبع المطر أو قوس قزح
أجد وجهك
أنتِ تسرين في دمي
أسمعيني صوتك
فهو صوت نبض القلب
- تجعلني أفقد تماسكي.
- لماذا ؟
- لأني لا احتمل اكثر.
تتعانق اكفنا برغبة.
- نادية . أنتِ أمنية العمر.
تضحك.
- وأنتَ أغنية تحرر.
- بول روبسون.
تضج بالضحك.
- وحدي أستمع الى الأغنية.
وأنا وحدي ألمس صوت نادية وعنقها الجميل وشعرها الناعم. يتناهى الى أسماعنا صوت مغنية عاطفي ودافئ تغني "أحبك من كل قلبي والى الأبد". نهرع الى الأغنية. نستمع بشغف يلفنا الحب والأمل والنظرات. أسمع ضربات قلبينا تتردد معاً في دورة الاسطوانة.
نبهني لحن ريفي من مزمار ليس بعيداً عني. وجاء صوت المغني الحزين يردد أغنية جنوبية عذبة.
أجد نفسي على مشارف قرية الرفيق سلام. البيوت تنبسط أمامي كصناديق خشبية تتخللها أشجار مغلفة بصمتٍ حزين منتشرة في الممرات وأمام الفسح الصغيرة. منظرها من بعيد يشبه نتوءات مسننة تفتقد الجمال رغم اخضرارها.
تنهمر الأصوات فجأة.
نباح الكلاب. نهيق الحمير. زقزقة العصافير .. تختلط بضجيج الأطفال ورغباتهم. يجيئون أمامي كأزهار برية حلوة. وجوههم تنطق بأكثر من سؤال . تكون لحظاتنا بريئة كبراءة أسئلتهم.
- عمي .. من تريد ؟
أنظر الى ملابسهم البالية وقد تمزقت في أجزاء كبيرة. وأقدامهم الحافية تلوثت بالأوحال وروث البهائم.
قرانا آثار مهدمة تثير الشفقة. رائحة البيوت وممراتها الضيقة تلسعني بقسوة والبرد فوق أسيجة الطين الواطئة يقتحم الدور وغرفها.
أحمل الحقد للوضع السياسي الذي يجلد الظهور. أمس شاهدت الريف الأوربي على شاشة التلفزيون. الآن أشاهد ريفنا الحزين وأقارن.
مرق طفل بجانبي. نظر إلي من مستوى منخفض بحركة دائرية من رأسه. سألني بشجاعة :
- عمي .. شتريد ؟
الطفل يمسك بيده بقعة ألوان. كرة من القماش الممزق أخاطته أمه لتحوله الى لعبة يمارسها أبنها. إن كرة القدم تتحول في ريفنا الى لفة قماش مرتق.
- أريد أبو عادل.
هتف بحماس:
- عمي سلام.
- سلام عمك ؟
اهتز صوته بفخر:
- إي .. عمي.
سرنا متوازيين الى بيت الرفيق سلام. دخل الصغير الى البيت وكان الرفيق سلام يخطو في ذاكرتي.
اسمه : سلام فاضل
عمره : 45 سنة
العمل : فلاح
الحالة : متزوج وله ثلاثة أطفال.
... وأحد عشر عاماً خبرة نضالية.
عاد الولد الصغير ومعه فتاة تماثله في السن. إبنة الرفيق سلام.
- عمي بالبستان.
تساءلت الفتاة :
- تريد أبويَ ؟
- نعم.
- هو في البستان. إمش معنا.
تحركا بخفة ونزق طفوليين. يداً بيد. عبرنا القرية مخلفين وراءنا أصواتها المتضاربة، الصاعدة، الهابطة، الخوار، النهيق، الروائح الحادة.
القرية تبتعد خلفنا خطوة بعد أخرى. والطريق الترابي ينعطف مع حركة النهر الذي نسير بمحاذاته. البساتين على جانبي النهر تأخذ أشكالاً غير منتظمة.
تؤشر الفتاة بيدها نحو البستان. نعبر فوق جذع نخلة توسد ضفتي النهر ليكون قنطرة صغيرة. نصل الى الباب.
استطعت أن أرى الرفيق سلام من بعد منهمكاً في عمله ، يرفس الأرض بمسحاته الطويلة. اقتربنا منه. انتبه الينا. ترك عمله وهب للترحيب بحماس. تفرس في وجهي مستغربا زيارتي.
- خير !
وقبل أن يسمع ردي استنفر ابنته للذهاب الى البيت لتهيئة العشاء. اعتذرت لضيق الوقت. عاد الصغيران الى البيت.
افترشنا الأرض المحروثة وعبق التربة يحيطنا. الساقية أمامنا ذات تفرعات متعددة ، كل فرع يمتد الى جانب من البستان. سألني بلهفة :
- ماذا حدث ؟
طمأنته :
- لا شيء.
وأعقبت:
- جئتك لمناقشة مسألة هامة ومعرفة رأيك بموضوع الاجتماع.
مد يده في جيب معطفه البالي وأخرج علبة سكائر. قدم لي سيكارة ووضع الأخرى في فمه. امتص الدخان بقوة. نهض من مكانه وسار باستقامة نحو نخلة قريبة. اتكأ على جذعها. حدق من بعيد في وجهي. التقت نظراتنا.
- لا أفهم قصدك.
- سأشرح موقفي : اجتماع غد سيطرح فيه كيفية مساهمة منظمة المدينة في تنفيذ توصيات الحزب المقررة بشأن القضية وطرق تنفيذها.
ترك جذع النخلة.
- هل تريد أن نناقش هذا الآن أم في الاجتماع ؟
- اردت أن أعرف رأيك مسبقاً.
- انا مع الحزب . سننفذ الأوامر.
- وأنا أيضاً .. لكن.
- لكن ! ... ماذا تقصد ؟
- مسألة التنفيذ.
- ما بها ؟
- أقترح تأجيلها.
- لماذا ؟
- بسبب هستريا المسؤولين في المدينة.
تقدم ببطء وانغرس عملاقاً أمامي. وأنا ما زلت على الأرض.
- متى كانت هستريا السلطة سبباً في التقاعس عن تنفيذ أوامر الحزب ؟
- ليس تقاعساً.
- ما هو إذن ؟
- حماية.
- حماية ! لمن ؟
- لرفاقنا.
قال بنبرة عميقة هادئة:
- أعتقد أن الرفاق يرفضون هذه الحماية.
قلت بحزم :
- إن العملية ستعطي مردوداً عكسياً.
- كيف عرفت ؟
- تقديري للموقف.
- هل أنت واثق من موقفك ؟
- كل الثقة.
- ستجد من يتهمك بالتخاذل.
- أريدك أن تقف معي.
جلس بجانبي . ابتسم بود .
- سامي. أعرف مدى إخلاصك للحزب. لكن موقفك هذا سيثير من حولك الشكوك.
- لا تهمني الشكوك قدر ما تهمني سلامة رفاقنا.
صمت لحظات. أطرق الى الأرض. الأفكار تصطرع في رأسه.
- لمَ هذا الخوف ؟
رفضت بحزم :
- ليس خوفاً.
ابتسم.
- لم أقصد.
- اطلعت على تقرير خطير حصل عليه أحد رفاقنا في مركز اللواء موجه الى مديريات الأمن والشرطة بشأن اتخاذ اجراءات رادعة فورية حيال أي تحرك سياسي في أي مدينة أو قرية غرضه الدعوة الى القضية.
ظهرت الحيرة على وجهه. أشعل لفافة تبغ أخرى. نفث منها نفساً عميقاً.
- هذا لا يبرر عدم التنفيذ.
اجتاحني غضب طارئ.
- من قال إننا لا ننفذ ؟
نظر باستغراب صامت.
- .........
- قلت لنؤجل التنفيذ لفترة.
- بعدها.
- ننفذ طبعاً بعد أن يكون الوضع قد هدأ.
تناول المسحاة من فوق التراب الرطب. مسكها بيده. أخذ يرفس. لفنا صمت لم يكن بالعفوي. وحسبت أنه يفكر الآن. صوت ارتطام المسحاة بالأرض الرطبة يحدث أزيزاً خاصاً. وقع قدمه فوق مسند المسحاة يمنح دندنة نغمية حلوة تتحد مع الصوت المرتطم بالأرض في عملية غير مقصودة.
نهضت من مكاني مملوءاً برائحة الأرض ورطوبتها الشتائية في حين أخذ خط جديد من التراب المحروث يظهر من تحت قدمي الرفيق سلام بفعل الرفس يميل الى لون غامق أشبه بلون القهوة المحروقة.
قلت محاولاً كسر طوق الصمت.
- ما رأيك ؟
- دعني أفكر.
- أتتفق معي ؟
- ....
- أعلم أنك ستفكر قبل أن تتخذ موقفاً محدداً.
اتجهت نحو الطريق. تبعني. لحق بي في منتصف المسافة. وضع يده على كتفي.
- نحن رفاق قبل كل شيء.
ابتسمت مؤكداً. قال :
- دعني أفكر. وسأخبرك.
صافحته قرب مدخل البستان.
- سأتي معك.
اعتذرت لكنه أصر. سرنا متجاورين نقطع الطريق باتجاه القرية.
* * *

كمال ___________________________________________________
في العمل نحقق وجودنا ونكتشف إنسانيتنا. نملك حرية الاختيار. أيتها السلطة الغبية، أيها البورجوازيون : إني أحتفظ لكم بأشياء رهيبة. سأجعلكم ترتعدون خوفاً وهلعاً. سأحول كرامتكم الى ذرات رماد. منشوراتنا ستجدونها تحت مقاعدكم. على أبوابكم. في بيوتكم وفي دوائركم الرسمية. ستفزعكم حملتنا. تقض مضاجعكم. سترون أنفسكم القذرة في مستنقع الرجعية النتن. أيها الأغبياء متى تسمعون صوت الشعب وتوقفون جرائمكم اليومية؟ كفى اغتيالاً للحرية كل يوم.
دقات الساعة في المذياع تعلن السادسة. ينتبه الى الأخبار، يستمع الى الموجز لعل فيه إشارة الى ثورة جديدة لا سيما وثورة هذا الشهر لم تتحقق حتى اليوم وفق الوعد المعسول "إن لنا في كل شهرٍ ثورة"
المذيع يقرأ المقدمة. لا شيء جديد في الأخبار. يقفل المذياع بضجر.
- تف .. اللعنة عليكم.
ينهض . يغادر البيت.
توشك ضجة الزقاق على النهاية. ثمة أطفال قليلون ما زالوا يمارسون "لعبة الدعبل". قفز من فوق المثلث المرسوم بطباشير أبيض على أرض "الدربونة". الفرح والشكر يرتسمان في عيون الصغار فهو لم يفسد وضع كراتهم الزجاجية الصغيرة ذات الألوان البراقة ويخل بنظامها.
هبت نسمة باردة. أحكم ياقة معطفه حول رقبته. نظر الى الوراء. الهواء البارد لم يؤثر في الأطفال.
من باب جانبي انداح وجه مألوف. خفق قلبه وارتعش شوقاً ورغبة.
- وسن .. ايتها المعبودة الجميلة.
وقف مرتبكاً من المفاجأة. امتدت يدها بقصاصة ورق ثم غابت داخل البيت. أصابعه تحتضن بحنان بالغ سطور حبيبته وسن. التفت حذراً. اطمأن. لا أحد يراقبه ولم يره إنسان. الزقاق أمامه خال. فتح يده وأمسك بالورقة:
حبيبي كمال
انتظرك الليلة. أمور هامة حدثت اليوم تهم مستقبلنا. أقتل الوقت وأعد اللحظات في انتظارك. أيها الحلم الندي.
وسن
من فم الزقاق المتهرئ البناء انعطف نحو الشارع الرئيس الممتد باستقامة حتى السوق. بدت الأجسام فيه أكثر وضوحاً وقابلية للنظر من "الدربونة" الضيقة. المصابيح في أعمدة الكهرباء تسفح ضوءً أبيض ينتشر على إسفلت الشارع.
وسن .. يا وسني الحلوة ... أعرف تلك الأمور يا حبيبتي. إنه والدك مرة أخرى. يفرض عليك زوجاً اختاره من وسطه حسب المواصفات المعلن عنها : صوم ، صلاة ، ابن حلال ، غني ، لا قمار ، لا خمر .. الى آخر القائمة المعروفة. وأنتِ أيتها الصغيرة الرائعة ما أعظمك في صلابتك . ما أقواكِ في رفضك. أيها الجمال الرائع كم أحبك .
امتدت يده الى جيبه. تناول لفافة تبغ. تصاعد الدخان من فمه كثيفاً. شقت وجهه الدفقة الدخانية. اصطدمت عيناه بوجه كريه يعرفه. حدق فيه تحدياً شأنه مع رجال الأمن في رصدهم للناس وتنغيص حياتهم.
إنه هو. اعرفه يا وسني. جذوره تمتد الى الماضي. الى كل الأذناب والعملاء وجلادي الشعب الصغار والكبار. يرفعون سياطهم لتهوي بعنف فوق ظهور رفاقنا فنسمع صراخهم وحشرجاتهم. لكن الانتصار مآله لنا عندما نحقق الثورة ، ونتجاوز هذه المرحلة.
لفافة تبغ ثانية. رهط من رجال الانضباط العسكري والشرطة.
إنهم ينتشرون يا وسن كالدخان الأسود. يرقبون الناس. يحصون حركاتهم. هكذا النظام حين يأفل نجمه ويوشك على الانهيار يكثر من زرع العيون. يفسد الضمائر. يشتري الذمم. ولكن هل يجديه ذلك؟ إنه التداعي والسقوط. عصر انهيار أدعياء الديمقراطية. وسط هذا الحقد وبين هذه الفوضى أرى وجهك قرنفلاٌ ابيض. شاطئ أمان عذب. فألقي بمرساتي عندك واحتضن حنانك وأغرق في حبك.
وجها عصام وفاروق يلوحان من وراء زجاج المقهى الملطخ بشتى أنواع الأصباغ والقاذورات وبقايا صور ملونة ممزقة. يدخل كمال قرفاً. يتجه نحوهما.
- مساء الخير.
- أهلاً.
- ألم تجدا أفضل من هذا الماخور؟
رد فاروق ممتعضاً :
- كل مقاهي المدينة مواخير متشابهة.
ضحك عصام :
- هناك ماخور أفضل.
- أين ؟
استمر عصام في ضحكه :
- النادي طبعاً.
جلس كمال على الأريكة.
- الله بالخير.
ضجيج المقهى يتعالى. أصوات الدومينو تتداخل مع قرقعة "الطاولي" وتتحد بقرقرة "النركيلة" تتشابك ببرنامج "قره قوز" في التلفزيون. ونداء الأسطة علوان القهواتي يرتفع كقذيفة موجهه:
- إبني " جاي " لأستاذ كمال.
ابتسم كمال لأسطة علوان وحرك رأسه شاكراً. أحضر النادل شاياً داكناً وضعه على المنضدة.
قال عصام:
- شاي خصوصي.
رد فاروق:
- أسطه علوان سياسي !
وأردف مبتسماً :
- من جماعة كمال.
أكمل عصام ما بدأ فيه فاروق:
- واحد يداري الآخر.
ابتسم كمال:
- يا لكما من أبلهين وأنتما تتحدثان بهذه السذاجة المفرطة.
تحفز فاروق :
- بصراحة .. ألم يكن الأسطة علوان رئيس نقابة عمال المقاهي ؟
أجاب عصام :
- أيام زمان.
هزأ كمال :
- واليوم متقاعد.
انزلقت عينا فاروق فوق ساعة عصام. هتف ساخطاً:
- الساعة السابعة. تأخرنا. هيا الى الصومعة. أمامنا الليلة احتفال عظيم. بطل عرق مجانا على حساب السيد عصام كاظم بمناسبة قرب سفره الى ألمانيا بصحبة والده مختار محلتنا المحترم لإجراء عملية في ساقه. دعواتنا للوالد بالشفاء والصحة الجيدة. آمين رب العالمين. الفاتحة.
تناثرت ضحكات الأصدقاء الثلاثة في أرجاء مقهى الأسطى حسن علوان جراء خطاب فاروق المرتجل بمناسبة سفر عصام الى ألمانيا. وكان لخفة دمه دور بارز في إرساء علاقة صميمية جمعت هذا الثلاثي الشاب.
غادروا المقهى مخلفين وراءهم فيض الضجيج المألوف. انفلتوا في الهواء البارد تجاه النادي في الطرف الشرقي من المدينة. حثوا خطاهم فوق اسفلت الشارع بسبب الرطوبة والبرد. بدت وجوههم متقلصة منكمشة الأحداق.
تيار الهواء يجلد الشارع. تتطاير بقايا الأشياء معه وتكون للحظة منظراً سريالياً تحت أشعة النور المتساقطة من رؤوس الأعمدة الكهربائية التي احتلت مسافة منتظمة على جانب الطريق.
يافطة النادي الكبيرة تُرى بوضوح بفعل ضوء النيون المحيط بها. وقف كمال أمام باب النادي ذي المدخل الشرقي وتأمل الشارع الممتد جوار الحديقة الخضراء.
- انظرا ..
قال عصام:
- أتقصد إن خط اليافطة رديء. ؟
- كلا.
تساءل فاروق :
- أين ننظر إذن ؟
- هناك .
وأشار بيده تجاه المصابيح الكهربائية المعلقة على الأعمدة وأردف :
- آخر مصباح.
قال فاروق :
- ما به ؟
واستطرد :
- أتريد أن تلقي علينا قصيدة ؟ أنا أعرفك. هيا قل ما عندك شأنك في كل مرة.
أجاب كمال :
- في البناية المجاورة لذلك المصباح يرقد عشرة من رفاقي.
ضحك عصام :
- أتود مشاركتهم ؟
- أنا أشاركهم فعلاً في الغاية والوسيلة.
قال فاروق :
- المعتقل يتيح للمرء مراجعة موقفه .
تحفز كمال :
- ماذا تعني ؟
تراجع فاروق مرتعداً :
- لا شيء . لا شيء.
- كيف يراجع المناضل موقفه ؟
- ......
- تصمتان... حسناً ... المناضل يراجع موقفه بمزيد من النضال والصلابة والحفاظ على شرف التنظيم. إن رفاقي في ذلك المعتقل الذي ترون جدرانه العالية وأسواره المنيعة رسموا الصورة المشرقة لمناضلينا وصمدوا بوجه الجلادين والـ ..
قاطعه فاروق :
- جئنا لنشرب ونقضي وقتاً طيباً. فبدأت السهرة بخطاب ثوري. ترى ماذا ينتظرنا بعد؟
ارتفع صوت كمال :
- قال "بوشكين" شاعر روسيا العظيم عن رفاقه في منافي سيبيريا بعد أن كاد القيصر يعدمه لاشتراكه في مؤامرة اغتياله
"يا أيها الذين يرزحون تحت حكم الأشغال الشاقة
وفي الظلمة يتلمسون السبيل الى النور
ليأتينكم النهار. خلل قفل ومفتاح "
صفق عصام ممتعضاً :
- بداية سيئة لسهرتنا.
قال كمال بفخر مشيراً الى السجن :
- أنهم "يقاتلون في سبيل عالم جديد" وحسبي أن أكون منهم.
صخب فاروق محتجاً :
- تلقي قصائد ثورية وأنا أتجمد الآن.
هرول في الممر الإسمنتي الذي يقسم الحديقة الى نصفين ملوحا بيده:
- الى اللقاء في الصالة.
تبعاه بتؤدة.
دخلا الصالة. اغلق عصام الباب وراءه بهدوء وقد أراحهما دفء المكان تاركين وراءهما الريح والبرد.
أشار إليهما فاروق من الزاوية البعيدة. سارا نحوه وكان يحرك يديه فوق المدفأة الغازية المنتصبة بجانبه.
- دفء لذيذ.
نزع كمال معطفه. ألقاه جانباً على أحد الكراسي وغاص في مقعد وثير. كذلك فعل عصام.
انتشر عدد قليل من الرواد في الصالة. الهدوء يخيم على الجو باستثناء مطربة غجرية تنوح وحيدة في التلفزيون تندب فراق حبيبها الذي رحل الى بلاد بعيدة.
قال عصام :
- الزبائن قليلون.
أجاب فاروق:
- نحن في أول الليل.
حضر النادل بأناقة مفرطة. ربطة عنق حمراء وقمصلة زرقاء فوق بدلته الصوفية وقد طلى شعر رأسه بسائل خاص فبدا لماعا متموجا تحت أشعة المصابيح الملونة. ابتسم باحترام بالغ:
- اتفضلوا ..عمي .
قال عصام:
- بطل عرق زحلاوي. وتصرف انت في المزة.
أجاب النادل :
- تؤمر عمي.
هذا هو ليل المدينة.
أفكر فيه وأهرم.
أعماقي الساكنة تثور مثل بركان.
الدكتاتورية وطنية.
تحليل الحزب لسلوك السلطة.
ازدواجية السياسة.
القضية الكبرى التي جند الحزب إمكاناته لها.
اللجنة .. الاجتماع.
كم أتعذب ؟ّ
في الليل يرتاح المتعبون في حين تبدأ متاعبي الحقيقية.
أفكر .. تشيخني اللحظات.
ترى الى متى تتشابه لياليَّ ؟
ومتى سينفرط عقد الألم المرير ؟
وأنتِ يا وسني الحلوة.
أيتها المعبودة الفاتنة.
أيريد والدك ابعادك عني ؟
هل يستطيع؟ هل يتمكن ؟
وأنا الذي رفضت ابنة عمي الغنية من أجلك
ومارست السياسة من أجل إعادة بناء وطننا بشكل جديد
آه يا وسن لو لم أكن مسؤولا للقنت أباك درساً في الأخلاق وحسن السيرة
وإن احتاج الى اكثر فما عدمت وسائل أخرى
النادل يحمل بين يديه صينية واسعة مملوءة بالأقداح والأواني الصغيرة يتأرجح في وسطها بطل العرق الزحلاوي، ويتحرك برشاقة وخفة لاعب السيرك بين الكراسي. وضع القناني، أواني المزة، ليمون حامض، باقلاء، لبلبي، جبس، ثم غرس قنينة العرق وسط المنضدة.
قال عصام
- أحضِر الصودا.
- تؤمر عمي.
وضع كمال علبة سجائره على المنضدة. امتدت الأيدي لتعمر الكؤوس.
هتف فاروق:
- لنشرب نخب صداقتنا العظيمة التي لن تؤثر فيها الأحداث.
تعانقت الأقداح بفرح. قدم كمال سيكارة الى عصام وأخرى لفاروق. تصاعد الدخان كثيفاً فوق المنضدة.
ابتسم كمال
- عصام. متى تسافر الى ألمانيا؟
- الأحد القادم.
- هل يزعجك السفر؟
صرخ فاروق
- بالعكس. إنه ينتظره كيوم للخلاص كما ينتظر السجين إطلاق سراحه.
سأل كمال
- أوراق وفحوص الوالد كاملة ؟
- منذ فترة. لقد هيأت كل شيء.
- كيف تعالج الأمور هناك وأنت تجهل الألمانية؟
- هل نسيت منذراً ابن عمي ؟ إنه يدرس في "هامبورغ" وسوف يكون بانتظارنا.
- هذا شيء جيد.
قال فاروق
- ما هي مشاريعك في ألمانيا ؟
ابتسم عصام ببراءة
- أية مشاريع ؟
- الجنسية طبعاً.
واستطرد
- ستحاول أولاً مع الممرضة المشرفة على الوالد ثم الـ ..
قاطعه كمال
- صحة الوالد أهم من هذه الأمور.
أطلق فاروق ضحكة مدوية.
- إن لديه مشاريع رهيبة في هذا المضمار.
ومد جسمه الى وسط المنضدة.
- إنه يفكر بمضاجعة ابنة عمدة المدينة التي سينزل فيها.
- يا للكارثة ! من أين لك هذه المعلومات ؟
ابتسم عصام ورفع قدحه
- حين يثمل فاروق يؤلف حكايات خرافية.
قال فاروق بنشوة عارمة:
- أشعر أني في غاية السعادة لسفرك وأتمنى لو كنت معك.
امتدت يد كمال الى قدحه.
- في صحة المسافرين الى ألمانيا يوم يجذبون خلفهم صديقنا الغالي فاروق.
تأوه فاروق
- لقد ولدت يا كمال في عالمٍ غير عالمي.
- وأين عالمك يا عزيزي؟
- باريس ، روما ، جنيف ، أي مكان خارج هذا المرآب.
تجهم وجه كمال وتوقع عصام ردا قاسيا. قال لفاروق:
- أثرت الرياح وستلفك دوامة كمال.
رد كمال بهدوء:
- ما يزرعه الإنسان يحصده أيضاً.
قال فاروق ببلاهة:
- ماذا تقصد؟
- إنك لم تحاول أن تجد خلاصك الحقيقي.
- لم أفهم.
- تطلعاتك تشبه كتاب سياحة قديم.
- أنت مسرف في أقوالك.
- أبداً.
- هل وجدت أنت خلاصك؟
رد كمال بحزم:
- نعم.
- كيف؟
- أنتما تعلمان ذلك. أنا سياسي ثوري ومناضل اكتشفت خلاصي وعرفت نفسي حين انضويت الى حركة ثورية. لقد تبدل كل شيء أمامي. أصبح لي هدف ووسيلة توصلني اليه.
صمت كمال .. تمعن في وجه فاروق.
- اسمع. لِمَ لا تنهي ألاعيبك هذه وتضع يدك في يدي نسير معاً تحت راية النضال.
نفث فاروق دخاناً أزرق.
- ألا يكفيني ما أقاسيه من صحبتك ؟ رجال الأمن يراقبوني باستمرار. أتريد كسر عنقي؟
- أنا أريد خلاصك.
- شكراً.
- ألمس من لهجتك أنك ضائع وضال.
- أتريد أن تنظّمني وأنا مخمور ؟
- هل هذا خداع ؟
- لا أدري ، ولكن هل تتوقع أن تنال وساما؟
- أنا أرفض كل الأوسمة التي تعنيها. يكفيني شرف الإنضواء الثوري. إنه أعلى قلادة وأرفع وسام.
- تحاول أن تجعلني يائساً. لكنني سأصل القمة بطريقتي الخاصة.
قال عصام ساخراً:
- أهي قمة ايفرست أم قمة جبل حمرين ؟
ضج الثلاثة بالضحك وأعقب فاروق.
- إنها القمة الفاروقية نسبة الى شخصي العظيم رمز التطلع نحو الأفضل.
استمروا في الضحك والأحاديث الطرية. تحولت اللحظات الى قرقعة كؤوس وأحلام ثورة. تطلعات خيال ورغبات تغيير. أمنيات حب ولهفة انتظار. لقد أحبوا الليل والخمر: الشيئين الذين يحملان اليهم البهجة والسرور. الليل ينثر الذكريات في سماء حياتهم ويجمع بينهم، يجلي عن صداقتهم ما قد يعلق بها من شوائب النهار. الليل معجزة حياتهم في بلد المنفى والشقاء.
ينتصف ليل الأصدقاء. يدفع عصام الحساب ومعه بقشيش جيد للنادل. يغادرون النادي وكل واحد يحمل أفكاره: عصام وألمانيا، فاروق وأحلامه الدائمة بالسفر، كمال ومشاغله النضالية ونداء قلبه.
إنها وسن تنتظر اللحظة.
* * *
حين دخل كمال الزقاق تطلع في ساعته فوجدها قد تجاوزت النصف بعد الثانية عشرة. حث خطاه حذراً. تلفت أكثر من مرة وراءه ليتأكد من خلو الطريق. وصل الى بيت وسن، فكر :
"إن وسن تنتظر مرهقة وراء هذه القطعة الخشبية"
لم يترك العنان لأفكاره. طرق الباب بخفة لا تكاد تسمع. إشارة خاصة متفق عليها. انفرج الباب عن وجه وسن. دلف الى الداخل بسرعة وهدوء. أغلقت وسن الباب.
لفهما ظلام مرعب. تعانقت الأكف بحرارة وضربات قلبيهما تتردد معا بإيقاع واحد.
قال كمال
- أنت مسرفة في شجاعتك.
تساءلت وسن بصوت ناعم
- هل أنت خائف؟
- قليلا.
- تأخرت نصف ساعة وأنا أنتظر بهذا البرد اللعين.
- ألف معذرة يا حبيبتي. هل تشعرين بالبرد؟ خذي معطفي ضعيه فوق كتفيك.
- كلا. إني أرتدي ملابس كافية.
قبّل كمال أصابعها الصغيرة في الظلمة ورائحة الخمر تعبق في فمه.
- ألعن ألف مرة هذا الظلام الذي يحرمني رؤية وجهك الفاتن.
سمعا وقع أقدام تقترب في الزقاق وتتحرك وفق إيقاع واحد مرت بجوار الباب الذي يختفيان وراءه. صمتا خائفين. وسن ترتجف كورقة. ضغط كمال على يديها. ابتعدت الأقدام فتنفسا الصعداء.
- إنه الحارس يا حبيبتي.
ألقت رأسها على كتفه محاولة إيجاد نوع من الصمود لنفسها ترتكز عليه.
- تقدم ابن عمي لخطوبتي أمس.
كأن مطرقة انهالت فوق رأس كمال. وشعر بحاجة ماسة الى تدخين سيكارة. اجتاحته لحظات صمت كابوسية. ثم سألها:
- وما موقف الوالد ؟
- إنه يخضع لتأثير القرابة رغم معرفته بابن أخيه.
- والوالدة ؟
- ضعيفة كما تعرف. القرار النهائي بيد الوالد.
- وماذا كان رده ؟
- إنه ينفذ التقاليد الاجتماعية بدقة. وعدهم أن يفكر ويدرس الموضوع ويعطيهم النتيجة بعد أيام.
- وأنت ؟
- أنا أرفض بشدة. لكن أي صوت يسمعه أبي ؟
- سنجبره أن يسمع صوتنا .
- كيف ؟
- لا عليك يا حبيبتي. من يدري ؟ ربما سيرفض. لننتظر قراره ثم نحدد موقفنا.
قبّل عينيها بلطف ومسح شعرها المتماوج الطويل بوداعة.
- الآن يا صغيرتي الحلوة. يا وسني الجميلة. إذهبي الى فراشك ونامي. الغد لنا والمستقبل بأيدينا. نحن نصنع حياتنا ونختار طريقنا.
وجدت في كلماته الشجاعة التي تنقصها والثقة الكبيرة وهي تتوسد فراشها. استعادتها أكثر من مرة. انشرحت نفسها وتلاشت أحزانها. وكلمات الليل لها وقعها وتأثيرها بالنفس. والليل يلد الفجر. يلد عالماً جديداً بعد تحول سواده الى إشراقة ضوء وإشعاع نور يسكبه الصباح فوق عالمنا الواسع الكبير.
* * *

سامي _______________________________________________
غادرت البيت. الساعة في معصمي تعلن العاشرة صباحاً. الإذاعة تقدم موجزاً للأنباء. سرت بجانب النهر جهة اليسار. عبرت القنطرة الصغيرة الى الجانب الآخر.
البيوت تنعكس في الماء وأشجار النخيل تتطاول فوق السطوح المنخفضة تشكل منظراً جميلاً في تناسقها وامتدادها داخل ضفتي النهر.
وصلت بيت الأستاذ مهدي فتناهى الى سمعي موسيقى صاخبة تنبعث من جهاز تسجيل وصوت الأستاذ يقول لابنه فريد:
- متى تترك هذه الترهات وتصبح آدمياً ؟
تعثرت بحجر ملقى أمام البيت. ركلته بقدمي فسقط في النهر. قفزت فوق ممر للمياه الآسنة ينحدر من بيت الأستاذ مهدي نحو النهر وزكمت انفي رائحة العفونة المنبعثة منه. قلت في نفسي:
- الإستاذ مهدي يدرّس العلوم والصحة ويبخل في حفر بالوعة صغيرة في بيته تختزن المياه القذرة!
انعطفت نحو اليمين. ضاقت الدربونة بشكل ملفت للنظر لا يتسع المجال فيها لمرور أكثر من شخصين. قطعتها مسرعاً. دخلت الشارع الكبير المترب. ثمة صبيان وبنات. بائعو "لبلبي" وباقلاء. أطفال يلعبون الكرة. عربة تكدس فيها أكياس من الطحين يدفعها شاب ينوء بتأثير ثقلها.. حركة واسعة.
تنقلت وسط هذا الجو الشعبي الصاخب حتى وصلت دار الرفيق فاضل. طرقت الباب. صوت في الداخل :
- من ؟
أجبت بصوت مرتفع محاولاً إسماعه في البيت:
- سامي .
انفرج الباب عن وجه مسالم مألوف. والدة الرفيق فاضل ترسم على وجهها ابتسامة وقور توحي بالاحترام.
- صباح الخير.
- أهلا بابني.
- فاضل موجود؟
- خرج قبل قليل.
تحركت في الشارع الطويل. وصلت فم السوق. لفني الزحام. الناس كخلايا النحل ينحدرون في ثلاثة اتجاهات. سوق التجار. القصابون. بائعو المخضرات.
صياح الباعة يعلو بشكل مقرف. تختلط الأصوات. تتداخل الإعلانات المجانية عن البضاعة بأشكال تتراوح بين الإلحاح والرجاء والترغيب. سرت بين الكتل البشرية المتراصة وسمعت أحدهم يتذمر:
- كم مزعج هذا السوق !
دلفت الى سوق التجار ذي السقف العالي. كانت أضوية النيون الملونة تتزاحم في نشر ألوانها على لفات القماش المعروضة في المخازن. الباعة مشغولون بقص الأقمشة وتهيئة طلبات زبائنهم. بصعوبة كنت أجد طريقي وسط هذا السيل البشري الذي يعد نفسه من الآن للاحتفال بالعيد رغم برودة الجو ككل أيام هذا الفصل. خلفت الزحام ورائي. السوق في حركة دائبة لا يتسرب اليها الملل. وصلت الساحة الكبيرة. مركز المدينة. تفرعات الشوارع الأربعة تعج بالسيارات، والناس على الأرصفة يغذون السير في ذهابٍ وإياب. مقهى الشعب يتربع في مدخل شارع السراي. قطعت الشارع باتجاه المقهى. دلفت الى الداخل. الرفيق فاضل يجلس في زاوية بعيدة تحت صندوق التلفزيون الكبير يقرأ إحدى الصحف.
- صباح الخير.
- أهلاً ... تفضل.
جلست قبالته على الأريكة المواجهة.
- ماذا تشرب ؟ شاي ، حامض ؟
- شاي. ما زال طعم الفطور في فمي.
- لم تتخل عن هذه العادة.
- أية عادة ؟!
- التأخر في تناول الفطور.
ابتسمت بود وحسبت أنه سيقول شيئاً أكثر أهمية مما قال. مر صانع المقهى من جوارنا. نبهه فاضل.
- قل للأسطى إبراهيم أن يحضر شايا.
- نعم أستاذ.
أخرجت علبة السكائر. قدمت له . اعتذر. أخذت واحدة.
- ماذا في الجريدة؟
قذف شتيمة لكاتب المقال الافتتاحي.
- ابن العاهرة !
وأشار الى اسم صاحب الجريدة.
- ما به؟
- جعل العراق في مقاله حصناً للديمقراطية وقلعة للحرية.
وأردف بشيء من الفتور.
- أين شرف الكلمة ؟
قلت محاولاً تهدئته
- ألم تعرف هذا الإنسان ؟ إنه منافق دجال تحول من التجارة نحو الصحافة.
تساءل بألم
- وأين الصحافة الحرة ؟ أهي غائبة عن الساحة لترد عليه وتقول الحقيقة.
قلت موضحاً
- الصحافة الحرة موجودة. لم تساوم رغم محاولات الاحتواء أو التهديد. البورجوازية تحاول دعم مركزها الإعلامي بواجهات براقة، وإن نجحت فلن يكون ذلك إلا مؤقتاً وستخسر موقعها حتماً.
قال بمرارة:
- أنظر. ابن الـ.. نصف الصفحة الأولى صورة للقائد المظفر. المقال الافتتاحي عن ديمقراطيته. الأخبار الداخلية عن الرجل الذي لا ينام. الصفحة الأخيرة أربع صور عن البطل المغوار.
وتساءل بحرقة:
- أهذه صحافة أم عهر بورجوازي ؟
وضع الأسطى ابراهيم الشاي على المنضدة بخفة معهودة وابتسامة خفيفة. بدأت تحريك الملعقة لإذابة السكر. رشفت قليلاً من الشاي وكان ذا نكهة جيدة.
مر شرطي أمن خلف شباك المقهى. تسللت صورته عبر الزجاجة. وجهه يحمل شؤما ويفتح بابا للمأساة.
فاضت الشمس بسطوعها في الساحة الدائرية وامتداد تفرعات الشوارع وعلى الأرصفة أمام الحوانيت والمخازن ولا يزال الناس منهمكين في البيع والشراء.
عاد شرطي الأمن مرة أخرى. توقف وراء الشباك. نظر الينا نظرة رجل السلطة الذي يملك حق التلاعب بمقدرات الناس.
دهشت لهذا النوع من الإصرار في الاستفزاز. انتهيت من الشاي وأنا تحت المراقبة. بدا لي بوضوح عقم هذه المحاولات مع مناضلين يملكون تجارب وخبرة في الحياة. وسخرت في داخلي من استحداث أكثر من مديرية أمن في الأقضية والنواحي بعد ان كانت مقتصرة على مراكز الألوية. وفكرت بالتعب النفسي لهؤلاء الأفراد المساكين وقلت بصوت منخفض.
- يا لها من مهنة شاقة تستلب الضمير.
لم يعلق بشيء. تحرك شرطي الأمن عبر إطار الشباك المغلق. ارتفعت أصوات الطاولي والدومينو في المقهى.
نظرت الى الشارع أستعرض المارة. الشمس الشتائية تسطع بروعة تنشر الدفء في النفوس. فكرت في طرح القضية التي تقلقني ومناقشتها مع فاضل وطبيعة الاجتماع الذي سيعقد هذا المساء.
دوى في المقهى المقابل صوت عيارات نارية. انتبه الجالسون. تطلعوا نحو مصدر الصوت. ضجة بدأت تحتشد عبر الشارع. تركوا ما في أيديهم. تلاقت النظرات متسائلة.
ترك فاضل الجريدة. قفزنا معا مخترقين أكوام البشر الذين احتشدوا في المقهى. الممر ضيق والأقدام تتعثر بأخرى، والمدخل ضاق بالعابرين واتخم حتى القرار. أصوات تتعالى.
- أمسكوا القاتل.
- الشرطة.
- لا تدعوا المجرم يهرب.
على أرض المقهى الرطبة وتحت سقف متهرئ قديم وحيطان قذرو مملوءة بالبصاق والصور الخليعة الملونة كان شاب يافع يتمدد بسلام وقد اخترقت صدره ثلاث رصاصات غادرة. الدماء تغطي مساحات متفرقة فوق ملابسه وتبدو بقع صغيرة تناثرت على الوجه والكتفين كأنها جزر وحشية توحي باللعنة.
حضر رجال الشرطة. ألقوا القبض على القاتل. استسلم لهم دون مقاومة. جردوه من سلاحه وهو ينظر الى الجثة الممدودة وسط بركة الدم. اقتيد خارج المقهى. الحشد يتكاثف. أقبلت سيارة الإسعاف. نزل منها شخصان يحملان محفة طبية. وضعا الجثة فوق المحفة وعادا الى السيارة واستقرا فيها. ابتعدت سيارة الإسعاف وصوتها ما زال يسمع من بعيد محدثاً ضجة عالية.
بدأ الناس يتبعثرون. عاد البعض الى مقاعدهم في حين ظل آخرون في أماكنهم. تعددت الآراء عن الجريمة وتباينت وجهات النظر فيها. كثرت الشروح والتعليقات. لقد وجدت المدينة وجبة دسمة حارة للحديث الذي سيستمر طويلاً.
يبقى الحافز في منطقتنا لارتكاب هذه الجرائم البشعة الثأر الغبي الذي يضرب أطنابه في منطق العشائر المتخلف التي تعيش وفق طقوس بائسة تجعل مصير الإنسان في مهب الريح حتى وإن لم يقترف الجريمة بنفسه. كل ذنبه أخ أو ابن عم أو ...
استطعت أن أرى على وجه فاضل تعبيراً عنيفاً من القسوة والرفض.
- أغبياء. متى يلحقون بركب الحضارة ؟
عدنا أدراجنا الى المقهى وجلسنا حيث زاويتنا قرب جهاز التلفزيون. لم يبق للحشد من أثر خارج المقهى. تفرق الناس بسرعة مثلما احتشدوا. عاد الشارع الى طبيعته. قلت لفاضل:
- ما تصورك لدافع الجريمة ؟
- لا شيء طبعاً سوى الثأر.
استدرجته مستفزاً.
- قد يكون الدافع سياسياً.
- تعني اغتيالا ؟
- أجل.
- لا أتصور.
صمت لحظات قال بعدها:
- هؤلاء القرويون يتنحون عن حياتهم مقابل أخذ ثارهم.
قلت بهدوء:
- ظاهرة متخلفة.
تساءل ببراءة:
- لم لا تضع السلطة حداً لها ؟
- السلطة أعجز من أن تفعل شيئاً. القضية مرتبطة بمدى تطور المجتمع الفكري والاجتماعي.
هز رأسه موافقاً.
- واضح.
أذعنت لبعض الهواجس التي اجتاحتني.
- ماذا تفعل لو كان القتيل رفيقنا؟
أجاب متلعثماً وقد هزه السؤال المفاجئ:
- ما .. ماذا .. تنتظر أن أفعل ؟
- إني أسألك.
صمت مفكراً وقال بعد قليل:
- الأمر متروك للحزب.
اندهشت.
- الحزب ؟!
- نعم.
- ماذا فعل الحزب في مدينة "ع" ؟
تطلع اليّ مشدوهاً.
- ....
- أعلنت السلطة بيانا رسمياً بعدد الضحايا ووصل الرقم الى مائة وتسعين. وهذا عدد رسمي. ترى ما هو الواقع الحقيقي؟ قد يكون الضعف. بعد هذا أتساءل عما عمل حزبنا في تلك المدينة المنكوبة؟
قال بهدوء:
- المسألة معقدة. في ظني كان على الحزب أن يفعل شيئاً .
- رفاق في عمر الورود اغتالتهم يد الغدر والجريمة.
نظر نحوي بانكسار.
- أجل.
قلت بحزم:
- نحن كثوريين وقوة طليعية للتغيير يجب أن يكون في حسابنا ميزان النصر لا الإخفاق. إن موت رفيق خسارة لا تعوض، واعتقال أو سجن مناضل في صفوفنا يعيق العملية الثورية ويؤجلها.
- هذا واضح جداً.
اخترقت حصن التردد الذي يساورني وعبرت المسافة مندفعاً وقاطعاً كل محاولة للتراجع أو التريث بعد أن مهدت الطريق.
- فاضل.
انتبه للتغيير المفاجئ الذي طرأ على رنّة الكلمة وإيقاعها المؤثر.
- ماذا؟
- أريد أن أناقشك في موضوع هام.
ارتسمت على وجهه الصغير علامة تساؤل وفتح فمه عن أسنان بيضاء لم يلحقها التسوس.
- ما هو ؟
- الاجتماع.
- ماذا به ؟ هل تأجل ؟
- كلا. نفس الموعد. مساء اليوم.
- ما الذي حدث؟
- لا شيء حتى الآن.
- إذن ما يقلقك ؟
امتدت يدي الى علبة السكائر. انتقيت لفافة تبغ ببطء. أرثتها بتمهل ملقياً كمية كبيرة من الدخان في سماء المقهى.
- أقترح أن نؤجل تنفيذ العملية.
صمت فاضل وأطرق الى الأرض مفكراً. امتدت اللحظات. تمطى زمننا وأنا أنتظر أن يقول شيئاً وحسبت أن القلق قد بدأ يساوره. غيّر جلسته وأبدل وضع ساقه بحيث ارتفع مفصل الركبة الى الأعلى. أرخى صدره الى الأمام بحركة رشيقة واضعاً ذقنه فوق يده المكورة التي استندت الى الركبة. نظر الي من زاوية مستقيمة. التقت نظراتنا بتساؤل.
- لماذا ؟
قلت بشيء من الرقة والإذعان:
- لدي المبررات الكافية.
- ما هي ؟
- رفاقنا .
- ما بهم ؟
- لا أوافق على زجهم في أتون السلطة.
- لم أفهم شيئاً.
- تنفيذ العملية يؤدي الى اعتقال شامل لكل رفاقنا.
- لكننا ننفذ أوامر الحزب.
- الحزب يحذر من المغامرة.
- هل تنفيذ أوامر الحزب مغامرة ؟
- كلا. إنما المرونة في العمل.
- كيف ؟
- نؤجل التنفيذ الى وقت آخر.
- تبني هذا الموقف يؤدي الى الريبة والشك.
- إني أرصد الوضع العام للسلطة في مدينتنا بواقعية وموضوعية، وفهم متكامل. القوى الرجعية والأمن والمخابرات يتّحدون ضدنا. أشبه ما يكون باتفاقية غير موقعة.
تحفّز فاضل في مكانه.
- هل هذا مبرر كاف ؟
- لا أقصد هذا بالضبط.
- ماذا تقصد إذن ؟
- الحفاظ على رفاقنا وعدم تعريضهم للخطر. نحن أمام اختيار. ننفذ لنتيح للسلطة متنفساً في مزيد من الإرهاب وحملات الاعتقال والتنكيل. أو نؤجل العملية فننقذ رفاقنا. لسنا في العاصمة ليبدو الأمر بسيطاً. نحن في مدينة صغيرة. يعرفوننا جيدا ويحصون حركاتنا.
- افرض أني أوافقك. لكن ماذا بشأن اللجنة ؟
- نحاول كلانا أن نتخذ موقفاً واحداً.
- لكن اتخاذ القرارات يتم بموجب رأي الأكثرية.
وحرك يده مبتسماً.
- ألا تفهم الديمقراطية ؟
- طرح الموضوع أمام اللجنة ونقاشه بروح رفاقية صميمية يؤدي الى وقوف الآخرين معنا. وهذا يؤدي الى منع وقوع كارثة محتملة.
قال فاضل بشيء من الضجر:
- لا تهول الأمر .
- بالعكس. إني أنشد أقوَم الطرق.
ابتسم جذلاً.
- الأمر في غاية البساطة ولا يدعو الى الانفعال.
تساءلت بدهشة.
- وأين الانفعال ؟
- على وجهك.
- وجهي ؟!
- نعم.
وأردف:
- انهض وانظر في تلك المرآة المعلقة على الجدار وسترى احمرار أذنيك وتورّد وجهك.
ابتسمت بإشفاق.
- عادة سيئة خارج نطاق إرادتي.
قال فاضل بود :
- حسناً. أنا معك أيها الرفيق العزيز، وأثق بموقفك كاملاً.
غسلني فرح داخلي مفاجئ لقرار فاضل وغمرني شعور بالراحة والسعادة. لقد أنهيت مهمتي معه بنجاح وتفاؤل، وزال التوتر والانفعال الذي أشار إليه فاضل. عليّ أن أبحث الآن عن كمال فقد يساعدني في الوصول الى قرار إيجابي وفق ما أفكر فيه.
سألت فاضل:
- هل شاهدت كمال؟
- كلا. إني أجلس هنا منذ وقت مبكر ولم ألمحه في الشارع ولا في المقهى.
- أود رؤيته لسبب هام.
استأذنت منصرفاً.
حين أفكر في كمال أرى الاندفاع الثوري والنقاء الشخصي لسلوك هذا الرفيق. وتترى أمامي المحن القاسية التي عاشها في خضم الأحداث. وكمال النسر المحلق نحو الذرى ما توقف يوماً عن النضال وما زعزعت الملمات صلابته وإيمانه بالقضية التي وهب نفسه لها.
وعندما أتحدث عن كمال أتحدث عن رفيق غني بالتجارب، متواضع في الانتصار، جلد في الملمات، ويبدو حديثي عنه نوعاً من التبتل والاحترام. فللأيام سحرها، وللنضال كشفه عن التبر الغالي لدواخل نفس رفيقنا. سرت باتجاه مقهى "الثورة" قرب الحسينية في الطرف الآخر من السوق ولاحت من بعيد يافطة عيادة الدكتور مفيد وفكرت بأن كمال قد دخل فيها. وحين مررت أمام فتحة الباب شاهدت عدداً كبيراً من المرضى ينتظرون دورهم في الدخول. ابتسمت بارتياح. إن رفيقنا الدكتور مفيد قد جعل عيادته مجاناً يوم الجمعة مساعدةً للفقراء والكادحين وتلبية لطلب الحزب.
تلاشى ضجيج السوق وبدت همهمات المرضى وذويهم تسمع بخفوت. سألت الفراش عن الدكتور. نهض من كرسيه باحترام وأجاب:
- موجود. اتفضل أستاذ.
- هل كمال معه ؟
- كلا.
تركت العيادة وخطوت على الرصيف نحو المقهى. كانت زرقة السماء عميقة ونور الشمس يسطع بقوة ويتحدد بدائرة كبيرة تفرعت منها عدة شوارع وأزقة أكبرها يؤدي الى المدرسة الشرقية. وفي فم الساحة كان مقهى "الثورة" يتربع على مساحة واسعة أمامها عدد من الكراسي والأرائك جلس عليها الزبائن يتدفئون بشمس الجمعة رغم برودة الهواء.
كان حاجز المقهى الزجاجي الذي يعيق مرور تيار الهواء البارد قد جعل المكان أشبه بمدفأة طبيعية. وكانت ملاعق الشاي تتحرك وأصواتها تختلط بأصوات الشارع المحاذي للمقهى.
لم يكن كمال على الرصيف. دلفت الى الداخل. التقيت بنوري صاحب المقهى.
- مرحباً.
- أهلا. تفضل.
- ألم يحضر كمال ؟
- لا أعلم. جئت قبل دقائق.
أجلت طرفي في المقهى. لم يكن كمال موجوداً وقررت الرجوع الى السوق. لدى عبوري باب المقهى سألت العامل:
- هل جاء كمال ؟
نفى العامل. وتأكد لي أن كمالاً لم يدخل مقهى الثورة حتى الآن.
أين هو الآن ؟
حثثت خطاي نحو مقهى "المنصور" قرب الثانوية. لم أجده هناك. انتابني تعب خفيف بعد أن قطعت عدة كيلومترات سيراً على قدمي، وقررت أن أرتاح قليلاً في المقهى.
التلفزيون يعرض فيلماً رياضياً وقد تجمهر حوله عدد كبير من المشاهدين يتابعون العرض بحماس.
أخذت أرشف الشاي بهدوء وبين الفينة والأخرى أتابع حركة الشارع فربما يمر كمال بطريق الصدفة. انقضت نصف ساعة. ضجرت بعدها فنهضت متثاقلاً وعدت بمهل الى البيت.
كانت نادية تهيئ الطعام. لم أكن أحس بشهية لكنني تناولت قليلاً من الحساء الساخن وانتابنتي رغبة كبيرة في النوم. غسلت فمي بسرعة وتمددت تحت غطاء سميك. شعرت بالدفء يحتويني، وبعالمٍ آخر بدأ يتكشف لي.
* * *
كانت الرطوبة في الزنزانة مرتفعة، وظل هزيل يلتصق بالجدار المتآكل. إنه ظلي. وتساءلت:
- من وضعني في هذا المكان ؟
فتحت باب الزنزانة وظهر وجه عدائي وراءها. صرخ بعصبية:
- هيا اخرج.
تحركت نحو الخارج دون أن يتيح لي فرصة ارتداء الحذاء. كانت الأرض متجمدة لا تطيق الأقدام العارية ملامستها. أرض قوامها ثلوج وتموجات بيضاء وأشجار تساقطت أوراقها وكساها الثلج فبانت كأنها جزء من القطب المنجمد. الثلج يمتد الى ما لا نهاية. في الأفق كانت تتناثر أوراق بيضاء دون انقطاع.
سالت الحارس:
- ما هذا ؟
أجاب بجفاء:
- إنها منشوراتكم.
تناهت الى سمعي أصوات قريبة. أصخت إليها بحذر. كانت رؤوس حليقة تظهر بين أكوام الثلج المنتشرة في الطريق وتدريجياً يظهر الجسم برمته. الأجسام كلها متلفعة بأغطية بيضاء. لكزني الحارس بفوهة البندقية شامتاً.
- ألا تعرفهم ؟ إنهم رفاقك.
دفعني بقوة وسطهم. كنا في برية ثلجية واسعة تغص بمخلوقات مشوهة وبدأنا مسيرة طويلة. من آن لآخر كان يظهر من وراء التموجات الثلجية نساء وأطفال ، شيوخ وشبان. وكان المنظر يوحي بجيش منهزم يرتعد من البرد ويتعثر فوق الصخور الجليدية شاقاً طريقه نحو المجهول.
استنزف البرد والجوع قواي وكنت أرى بعض النساء يسقطن من الإعياء والبرد حيث يتناثر فوقهن الثلج المتساقط مكوناً قبراً أبيض وكن يستسلمن لعملية دفنهن براحة ورضى في حين كان جيشنا الزاحف ببطء نحو المجهول لا يتوانى عن التقدم تحت وقع الأسلحة المشرعة نحو الصدور. وإن سقط أحدنا دفنه الثلج بلا رحمة.
تعثرت قدمي بحجارة غطاها الدثار الأبيض. سقطت على الأرض وبدأ الثلج يغطي جسمي بدثار خفيف ناصع البياض. لكن شيئاً في داخلي دفعني الى التمرد على لذة النوم التي بدت لا تقاوم وناضلت كي أقف، لكن بدون فائدة. اللذة تمتلكني، تحيطني بجدار. فجأة امتدت يد قوية انتشلتني من وهدتي. حين حدقت في وجه منقذي رأيت كمالاً. تعانقنا بحرارة وقلت له "إنني أبحث عنك منذ زمن" ابتسم دون أن يعي كلماتي. سحبته وراء تل ثلجي. اختفينا عن عيون الحراس. سألته وأنا أرتجف من البرد:
- الى أين نسير؟
لم يسمعني.
قلت بعصبية:
- هل نستكين ونقبل بالهزيمة ؟
قبل أن يرد كمال ظهر وجه الحارس فوق الأكمة الثلجية وصرخ بقوة:
- أنتما تتآمران.
صوّب بندقيته نحونا وتقدم بحذر.
- ارفعا أيديكما الى الأعلى.
لم يكن أمامنا سوى تنفيذ الأمر. لحظات إهانة وإذلال واغتصاب لحياتنا. وعلى غير توقع. كان الحدث مروعاً. أطلق الحارس النار على كمال فغرق على الفور في بركة من الدماء. انقطعت كل تصوراتي عن الجريمة ولم أكن اللحظة سوى صراخ وهياج ..
- كمال .. كمال .. كما ..ل .. ك .. ا .. ل ..
- سامي ... سامي.
يد نادية امتدت بحنان. أيقظتني وطردت عني أفظع كابوس افترسني بشراسة.
ابتسمت بحب.
- كنت تتكلم في النوم.
قلت بهدوء:
- كنت أصارع وحشاً خرافياً.
سحبتني من يدي.
- إنه وحش السلطة يا حبيبي. انهض. وراءك عمل كثير.
نهضت بحماس. وتحت صنبور الماء كنت أغسل بقايا الكابوس الذي اجتاحني قبل لحظات وأعد نفسي من الآن لاجتماع الليلة.
ارتديت ملابسي. جاءت نادية تحمل قدح الشاي. وضعته على المنضدة الصغيرة بجانب المكتبة. جلست أحتسي الشاي برشفات قليلة وأسرح مع دخان السيكارة الذي يتصاعد من فمي ويطفو في أنحاء الغرفة مكونا عالما شفافاً بدأت أغوص فيه تدريجياً وأبحث من خلاله عن وجه رفاقي في هذه الليلة وفوق هذه الكراسي.
* * *
الليل يرخي سدوله فوق مدينتنا وبعض السحب الداكنة تحجب النجوم وتزيد الشوارع المقفرة من الناس ظلاماً ووحشة. ريح خفيفة تهب وتهدأ ثم تعاود الهبوب وتحدث صوتاً متوتراً يتكسر بين ثنيات الأزقة والشوارع الواسعة ويلامس رفاق الحراسة الثلاثة الذين توزعوا في شارع المحطة ومدخل الزقاق وشارع السوق. وكانوا بين فترة وأخرى يتبادلون مراكزهم قاطعين المسافة بين بعضهم درءً للخطر الذي قد يتعرض له رفاقهم المجتمعون ثم يتبادلون كلمة أو أكثر هي اتفاق على أن الأمور تجري بسلام.
في منزلي حضر الرفاق. وفي غرفة المكتبة كنا نجلس بإخاء وود. نظرت الى ساعة يدي فوجدتها قد تجاوزت الثامنة بقليل. تطلعت نحو وجوههم.
سلام. كمال. فاضل. نادية. مسؤول قرية "ع" الملحقة بتنظيمنا. افتتح كمال الاجتماع.
- أيها الرفاق. نجتمع لغرض بحث تنفيذ أوامر الحزب بشأن القضية ونراجع نشاطات تنظيمنا في الشهر الماضي وتقييمها وفق روح رفاقية وبمستوى عال من المسؤولية. أتوجه الى الرفيق فاضل لإبداء ملاحظاته.
قال فاضل:
- الشارع يتعاطف معنا بنوع من التأثير النفسي لقضية نفي رفاقنا. الناس معنا بشكل عام باستثناء الرجعيين طبعاً.
ابتسم كمال وتوجه نحوي.
- وأنت يا رفيق سامي ؟
تناولت سيكارة. أشعلتها من علبة كبريت موضوعة أمامي على المنضدة.
- بعض كوادر التنظيم في حالة تشوش واضطراب بعد نفي رفاقنا.
تحدث مسؤول قرية "ع":
- المسألة معكوسة.
وأردف :
- هذه حالة خطيرة يجب معالجتها فوراً.
- الأمر ليس بهذه الخطورة أيها الرفيق وهذا ليس أول إبعاد يتعرض له رفاقنا.
نظرت نادية نحوي وأفصحت عن وجهة نظرها:
- تحاول السلطة إذلال المناضلين بهذا الإجراء القمعي ومحاولة عرقلة التنظيم من ناحية وخلق صعوبات معاشية لعوائل الرفاق المنفيين.
قال كمال:
- رفيقة نادية هذه المسألة قد حسمها الحزب. وهو يقدم مساعدات قدر الإمكان الى عوائل رفاقنا الذين هم بحاجة إليها.
ردت نادية:
- علينا أن نهتم بهذه المسألة فهي كفيلة بخلق ثقة لا حد لها بين الحزب والرفاق.
أكد مسؤول قرية "ع":
- أوافق على هذا بدون تحفظ.
وأكمل فاضل:
- موقف الحزب من عوائل رفاقنا المسجونين والمنفيين يؤثر بشكل جوهري على معنويات الرفاق أنفسهم وعوائلهم. لذا يجب حث التنظيم في مدينتنا لتنشيط التبرعات فنحن نواجه موقفاً صعباً بعد نفي الرفاق.
قال كمال :
- هل نتخذ قراراً بشأن ذلك ؟
ونظر الى وجوه الرفاق واحداً بعد الآخر. لم يجد من يعترض. توجه بالسؤال الى فاضل:
- ماذا تقترح رفيق ؟
أجاب فاضل بهدوء وبإشارة من رأسه:
- أترك ذلك للرفيق سامي.
ابتسمتُ:
- الأمر مطروح أمامنا جميعاً.
قال مسؤول قرية (ع):
- أقترح زيادة في التبرع على النحو التالي: خمسون فلساً لرفاقنا العمال وربع دينار لرفاقنا الموظفين.
سألت نادية:
- ماذا تعني؟
- يدفع كل رفيق اشتراكه الشهري بزيادة درهم واحد للفلاح وربع دينار للموظف.
- ربما يؤدي الى نوع من التذمر.
التقط الرفيق كمال نهاية الجملة.
- نطرح الاقتراح للتصويت. الموافقون يرفعون أيديهم.
رفع الرفيق مسؤول قرية (ع) يده بحماس مفرط. أعقبه فاضل. وكانت يد نادية ترتفع بيضاء ناصعة فوق المنضدة. ثم يدي وبجانبهما يد سلام وأخيراً الرفيق كمال. اتفقنا بالإجماع على هذا القرار. ساد الصمت لحظات ثم تحدث كمال:
- أشار الرفيق سامي الى وجود حالة تشوش لدى بعض الكوادر في التنظيم.
نظر نحوي وتساءل:
- هل يوضح الرفيق سامي أكثر؟
- هذا واضح ضمن من أعمل معهم. قد يكون نفي الرفاق مبررا لحالة نفسية في تدهور معنوياتهم. أضف الى ذلك المراقبة الشديدة المزعجة التي يقوم بها الأمن والشرطة.
قال الرفيق مسؤول قرية (ع):
- في قريتنا توجد حالات إحباط نفسية لدى بعض الرفاق. إن رفيقين متقدمين في التنظيم لم يحضرا اجتماعين متتاليين.
نبه الرفيق كمال:
- الأمر ليس بهذه الخطورة كما تتصوران. والعمل الحزبي كما تعرفان لظروف سرية يتعرض أحيانا للجزر لكنه بعد فترة يعاود نشاطه بفاعلية أكبر. وعلى العموم أسأل بقية الرفاق إن كان في تنظيمهم حالات مشابهة؟
قال فاضل
- هذه مسألة طبيعية ولا تدعو للتخوف أو القلق.
ونفت نادية:
- رفيقاتنا يعملن بشكل منظم ورائع.
رد كمال:
- قد يتعرض بعض الرفاق لحالات نفسية وإحباط داخلي يؤدي الى انكماش أو خوف. وعلينا كمناضلين معالجتهم بثقة كبيرة وشعور عال من المسؤولية تجاههم واتجاه الحزب. إن رفع معنوياتهم وحثهم على تسلم مسؤولياتهم بروح رفاقية يعيد الثقة إليهم ويقوي إيمانهم الأيديولوجي.
أخرج علبة سكائر من جيبه وأخذ سيكارة. انزلقت يده تبحث عن عود كبريت. لم يجده. تطوع الرفيق سلام ومد يده بولاعته نحو السيكارة.
- تفضل.
انتبه كمال:
- شكراً.
وأردف:
- لم تشارك في النقاش.
ابتسم سلام:
- لم يحن دوري.
نفث كمال نفساً دخانياً وتصاعد عبقه في أنحاء الغرفة. توجه إلينا:
- أيها الرفاق، أمامنا مهمة تنفيذ القضية الكبرى التي جند حزبنا كافة إمكاناته من أجلها. وعلينا أن نتفق في هذا الاجتماع على موعد وطريقة التنفيذ. المسألة مطروحة للنقاش لإيجاد أفضل الوسائل للعمل.
وتساءل:
- ماذا تقترحون؟
ساد صمت متوتر. التقت نظراتي بسرعة مع فاضل وسلام ونادية.
قال سلام:
- ما رأيك أنت أيها الرفيق؟
اقترب كمال من حافة المنضدة حتى لامسها:
- كنت أعيش القضية طوال الأيام الماضية وقد خططت لذلك كما سأشرح الآن.
انتبهوا بحذر وأصغوا. قبل أن يسترسل كمال في حديثه قلت:
- تسمح رفيق.
فوجئ كمال واستسلم مندهشاً. قلت بثقة:
- في ظروف مدينتنا الراهنة أرى من الأفضل أن نؤجل تنفيذ العملية.
بهذه العبارة توقف زمن اللحظات واهتزت أعماق الجميع. ترى ما الذي سيحدث؟
واستطردت:
- بوسعنا أن نفكر جميعاً أيها الرفاق. فنحن أقرب الى الحزب من غيرنا ونملك موهبة الكشف ولا نريد أن نلجأ الى نوع من الحماية. إن مستقبلنا هو حزبنا، وحزبنا رفاقنا وعلينا حمايتهم.
تساءل:
- تبدو غامضاً رفيق سامي. تتحدث عن موهبة وحماية ومستقبل. أرجو أن توضح أكثر.
قلت بتصميم:
- يخيم على المدينة جو من القلق والتوتر. لقد عرى نفي رفاقنا كثيراً من الحقائق.
قال سلام:
- ماذا تعني؟
- بصراحة. إن السلطة تنصب فخاً للتنظيم بغية تحطيمه. ونحن بعملنا نتيح فرصة ذهبية للعدو.
قال مسؤول قرية (ع):
- كيف ذلك؟
- التنظيم في مدينة (ب) مركز اللواء حصل على نسخة من أمر سري يقضي بتشتيت تنظيمنا ووضعوا أنفسهم بالإنذار لمواجهة أي تحرك من رفاقنا.
تساءلت نادية:
- يجب أن تصل هذه المعلومات لكل رفاقنا ليكونوا حذرين.
اعترض كمال:
- لحظة رفيقة نادية.
توجه نحوي:
- كيف حصلت على هذه المعلومات؟
انغرست عيني بعينه:
- بحكم عملي.
- لماذا لم تخبرني؟
- بحثت عنك ولم أجدك، ونحن هنا مجتمعون لدراسة الموقف.
قال كمال:
- متى بدأنا نخشى الأمن والشرطة؟
تحرك فاضل فوق كرسيه:
- ليس خوفاً أيها الرفيق.
ارتفعت نبرة كمال قليل:اً
- ماذا تسميه إذن؟
- إنه الحفاظ على رفاقنا من بطش السلطة.
ابتسم كمال بود:
- كيف تتصور الحالة رفيق سامي بعد التنفيذ؟
أجبت بتصميم وثقة:
- الحالة واضحة. نفي رفاقنا كان مؤشراً لذلك. سنتعرض للاعتقال والنفي والتشريد. ليس نحن فحسب وإنما كل من هو معروف للسلطة من رفاقنا.
تهدج صوت كمال وأضحى غليظاً:
- نحن مناضلون انضوينا تحت لواء حزب ثوري. وكل رفيق يدرك ذلك. إن التزامنا بأوامر الحزب يعني التضحية.
وشدد في كلماته:
- الاعتقال ليس أداة تخويف لنا.
حاولت أن أوضح موقفي:
- لا أطرح القضية بهذا الشكل.
قال مسؤول قرية (ع):
- كيف تُطرح إذن؟
- علينا أن نعرف ونعي ظروفنا الموضوعية وقوتنا الذاتية إزاء نشاطنا وفعاليتنا وإلا وضعنا رفاقنا أمام صعوبات وتضحيات هم في غنى عنها.
قال سلام:
- آراء الجميع صادقة وقد لا نتوصل الى قرار. لذا أتوجه الى الرفيق كمال باقتراح تصويت حول الموضوع.
كان كمال يضغط على سيكارته بشفتيه، ويداه متوترتان فوق المنضدة وبانت فيهما عروق زرقاء وتشابكت أصابعه بحركة متشنجة قلقة.
- في كل القضايا التي نختلف فيها نلجأ الى الاقتراع. وهذه هي الديمقراطية. يخضع الفرد لرأي الجماعة والأقلية للأكثرية مع الاحتفاظ بالرأي المعارض واحترامه.
توقف لحظة واستطرد:
- أيها الرفاق لنصوت الآن حول التنفيذ. ولأجل أن لا يقع أحدنا تحت تأثير جانبي أقترح أن يكون التصويت سرياً.
قالت نادية:
- ولم السرية أيها الرفيق؟
أجاب كمال بهدوء:
- ذلك أفضل.
وكان صوته آمراً. سحب من تحت يده ورقة بيضاء مستطيلة طواها بدقة عدة طويات ثم قصها الى قطع صغيرة متساوية. أعطى لكل رفيق ورقة.
- الرفاق الموافقون يكتبون "نعم" والمعارضون يكتبون "لا".
فكرت بحرية، وكنت وحيداً مع نفسي. أمارس حقي في النضال. وفي الواقع لا أتحدث إلا من خلال ما أؤمن بضرورته للحزب. ولكن هل أشاهد الآن غير اعتراضي ووحدتي بين هؤلاء الرفاق الصميميين؟
كانت الأقلام تكتب بهدوء على الأوراق. وكنت أسمع حفيف القلم يلامس الورقة وباستطاعتي معرفة "نعم" و "لا" من حركة وصوت القلم على الورقة.
عندما ينتهي أحد الرفاق من اقتراعه كان يسلم ورقته بعد طيها الى كمال الذي يضعها بدوره تحت كتاب أمامه.
انتهى الجميع. أخذت اللحظات تمتد ولا أجد قراراً اطمئن فيه إنسانا ومناضلا غير قرار الديمقراطية في ممارساتنا الحزبية.
قال كمال بهدوء:
- نتيجة الاقتراع ملزمة للجميع.
وأردف:
- هذه هي الروح الرفاقية العالية التي نعتز بها والتي تميزنا عن الأحزاب الأخرى.
ونظر الى نادية:
- رفيقة. تفضلي بقراءة النتيجة.
مدت نادية يداً واثقة واحتوت الأوراق. نظرت في وجوه الرفاق.
- سأضع هنا "نعم".
وأشارت الى مكان ما على المنضدة أقرب إليّ من أي رفيق آخر. وأردفت:
- وهنا سأضع "لا".
قلبت الورقة الأولى. ابتسمت:
- نعم.
وضعتها أمام كمال.
- وهذه لا.
وضعتها أمامي.
- الورقة الثالثة "نعم".
وأفصحت عن الرابعة:
- نعم.
ثم الخامسة:
- نعم.
الورقة الأخيرة:
- لا.
واستطردت:
- النتيجة حاسمة.
وأشارت بيدها الى الأوراق.
- أربعة رفاق صوتوا للتنفيذ من مجموع ستة.
شعرت بأسىً لنتيجة الاقتراع رغم إيماني بعدالته. وطافت في ذهني صور شتى للأيام المقبلة.
قال سلام:
- اجتزنا مرحلة التصويت.
وتوجه نحو كمال:
- هل لدى الرفيق خطة معينة؟
تحفز كمال في كرسيه منتظراً دوره في الحديث وأسرع في الرد:
- نعم... على الوجه التالي.
واستطرد:
- يقوم مسئولو الخلايا بشرح القضية وأبعادها للأعضاء وإعدادهم ليوم التنفيذ.
توقف قليلاً. ساد صمت متوتر.
- التنفيذ أيها الرفاق سيكون على هيئة "فرق". كل فرقة يعين لها قطاع توزع فيه شعارات القضية تكتبها أو تلصقها على الجدران وأعمدة الكهرباء أو في أي مكان مناسب. وقد درست إمكانات تنظيم فرق على الوجه التالي : كل فرقة تتكون من ثلاثة رفاق. إثنان للتنفيذ والثالث للحراسة. الفرق توزع كالآتي:
أولا: فرقة للشارع الذي يربط بين كراج السيارات وطريق بغداد العام.
ثانياً: فرقة خاصة من الرفاق النشطين ينفذون في شارع السراي ومركز الشرطة. تراعى الدقة في اختيار الرفاق لهذا القطاع حيث دوريات الشرطة والحرس تتناوب باستمرار. أضف الى ذلك وجود دار القائممقام والحاكم في هذا الشارع.
ثالثاً: فرقة نشطة للسوق.
رابعاً: فرقة لشارع "محطة القطار"
خامساً: فرقة لشارع "دور الضباط"
سادساً: فرقة في كل محلة من المدينة.
صمت لحظة ثم استطرد:
- أي سبع فرق. لأن في المدينة سبع محلات. يكون المجموع اثنتا عشرة فرقة، ترفع شعارات الحزب بشأن القضية. أرجو أيها الرفاق ملاحظة حجم الشعار. قد يكون صغيراً كورقة الدفتر أو كبيراً كلافتة تعلق على الجدار.
نظر الى الرفاق واحداً بعد الآخر ليرى وقع كلامه ومدى اقتناعهم به.
- والآن. ما رأيكم فيما قلت؟
قال مسؤول قرية "ع":
- جيد.
وأضاف:
- هل ننفذ في القرية ؟
أطرق كمال مفكراً ثم أجاب:
- لا ضرورة لذلك. لكني أقترح أن يساعد رفاق القرية رفاقهم في المدينة بمجيء بعضهم والمساهمة في التنفيذ.
رد مسؤول قرية "ع":
- هذا رائع وروح رفاقية عالية.
لم يعترض أحد على خطة كمال. التزمت الصمت. واتفقنا أن يكون التنفيذ بعد أسبوع واحد.
طلب كمال مني أن أكتب محضراً بالاجتماع. ففعلت.
انتهى الاجتماع وبدأ الرفاق ينصرفون واحداً عقب الآخر. قلت لسلام وهو يتأهب للخروج:
- القرية بعيدة والوقت متأخر. إقض الليلة عندنا.
اعتذر مبتسماً:
- الصغار ينتظرون الآن مع أمهم.
أوصلته الى الباب الخارجي. لفحني هواء بارد بدد بعض كآبتي. عدت الى الداخل. كانت نادية تواجهني. قالت بود:
- تبدو مرهقاً. سأعد لك شاياً.
اتجهت نحو المطبخ.
اضطجعت على الأريكة محاولاً إعادة ترتيب الأفكار التي تصطرع في داخلي. ولكي أمزق كآبتي وخواطري الحزينة لجهودي المهدورة حاولت أن أطرد عن ذهني النتائج السوداء المتوقعة لكنني عجزت.
بفرح وحب أحضرت نادية قدحين من الشاي. جلسنا نحتسيهما ببطء. ساد الصمت بيننا. لكن نادية قطعت حباله بنغمة صوتية محببة تعمدت جر مقاطع أواخر الكلمات:
- هل .. ما .. يزال .. الرفيق .. سامي .. يتنفس .. برئة المعارضة ؟
نظرت إليها مبتسماً
- كلا أيتها الرفيقة الحلوة.
* * *

يوميات

اليوم الأول
الزمن ثقيل، طويل. يتكئ عليّ. كذلك الانتظار. يجيء الزمن كامرأة ليلية خطرة يجب اجتيازها.
المدينة تتحرك.
السوق. الشارع. الليل. النهار.
القاعدة بدأت تتدارس خطة التنفيذ.

اليوم الثاني
سنواجه العالم. نمتلكه. نخلقه من جديد. نحن نقيض السلطة. السلطة نقيضنا.
سنغير وجه العالم الموبوء الخرِب.

اليوم الثالث
رفاقنا منهمكون في إعداد الشعارات وكتابة اللافتات.
رفاقنا عالم متكامل.
رفاقنا بحر وأنا جزيرة.

اليوم الرابع
ما أعجب هذا النظام؟
لماذا يضطهد الإنسان في وطنه؟
لولا الحزب لكنت نزيل مستشفى الأمراض العصبية.
الثورة في رأيي استرداد حريتنا المفقودة.

اليوم الخامس
افتتاحيات الصحف موغلة في تأليه "القائد".
يا للغباء. لم يتركوا له فرصة معرفة أخطائه.
منذ شهور والإذاعة تقدم كل مساء برنامجاً خاصاً عن خطبه "الفذة".

اليوم السادس
أستدعي الرفيق كمال لمديرية الأمن. احتجزوه أربع ساعات ثم أطلقوا سراحه. قال:
- يعلنون حالة الطوارئ.
وأكد بعزم:
- سنمضي في عملنا وننفذ خطة الحزب.

اليوم السابع
لست الحزب. وليس كمال.
الحزب هو الجماهير الكادحة. كمال وأنا جزء منها. طليعة واعية لنضال الطبقة العاملة المسحوقة.
* * *

التنفيذ
الهواء يحمل برودة طرية. والليل يتسلل الى الطرقات والمنازل. رفاقنا على استعداد تام للتنفيذ هذه الليلة حسب الخطة المرسومة.
يتكاثف الليل.
يغطي دثار السماء.
ينشط رفاقنا في عملهم.
تصل الظلمة حد الإخاء المتواضع في الإخفاء.
الليل والرفاق صنوان لا ينفصلان في الشجاعة.
قد يلغم الليل بالأعداء، لكن الرفاق واعون.
* * *
غطت شعارات الحزب المدينة بأكملها. الساعة الرابعة صباحاً.
ستفيق السلطة على يوم كئيب.
* * *
ألقى الحراس القبض على رفيقين في شارع السراي وهما يلصقان المنشورات على دار القائممقام. وفي غبش الفجر بدأت معهم سلسلة مطولة من التحقيقات والإهانات.
* * *
وقفت سيارة الأمن العام أمام مدرستي. نزل منها رجل قميء. هرول مسرعاً. دخل الإدارة. واجهني في غرفة المدير.
- أستاذ سامي.
- نعم.
- تفضل معنا.
- أين؟
- الى مديرية الأمن.
- بأمر من؟
أخرج من جيبه قائمة طويلة بأسماء الرفاق المطلوب القبض عليهم. وضع علامة (×) إزاء اسمي وشاهدت العلامة تتكرر أمام عدد من الأسماء، فتأكد لي بأنهم معتقلون.
قال شرطي الأمن:
- بأمر مدير الأمن.
- والقضاء ؟ والحاكم ؟
- نحن نخضع لمديريتنا.
كان من العبث الامتناع عن الذهاب. ركبت سيارة "اللاندروفر" فطالعتني وجوه خمسة رفاق قبض عليهم. ابتسمنا جميعاً.
في المعتقل كانت الوجوه مألوفة ومتسائلة.
* * *
ضوء الشمس معتمٌ.
الضوء يسبح بين الأشجار والنخيل. بين البيوت والشوارع يمسح موجاته بغيمة بيضاء يداعبها. ويلامس جرس المدرسة. يعانق ذبذباته. يدخل آذان الصغار.
الضوء ينحدر خجلاً.
ينحدر ... ينحدر ..
ويجيء ضوء العصر.
يرفض النزول في شوارع المدينة ويهجر النزهة على سطوحها وذؤابات بناياتها العالية.
دائرة الضوء داخل المعتقل.
الضوء الحزب.
الحزب الضوء.
الرفاق.
كمال . فاضل. سلام. وكانت نادية في ذاكرتي طرية لم تجرؤ يد السلطة على اعتقالها.
الحزب وراء الأسوار حبيس الجدران. صمود وقوة. ابتسامة أمل شفافة وعيون ساهرة وقلب يحب.
لن يموت. لن ينتهي. ضعوه في أي مكان. قيدوه. أثقلوه بالحديد. بالموت.
لكنه سينتفض ويعود أقوى مما كان.
واجهت كمال مبتسماً.
- سنواجه العاصفة.
ربت على كتفي بود:
- أيها الرفيق العزيز، نحن دوماً نواجه العواصف.
وأردف بثقة:
- وننتصر.
رددت معه:
- ننتصر. ننتصر.

"لأن الليالي تئن على ساكنيها
تكون معي
هنا بين نهرٍ ونهر
وما بين صيفٍ وصيف
تكون معي
إذا غادرتنا الفصاحةُ
واحتار فينا الطريق
تكون معي
شبيهاً بوعد الحياة الحكيمة
شبيهاً بلون العراق"

ليست هناك تعليقات: