الأحد، 16 مايو 2010

مهند الشهرباني - الابتهال الأخير



الابتهال الأخير

مهند الشهرباني



الابتهال الأخير

مهند الشهرباني

أنعرف ما تؤول إليه حياتنا إذا ما تحددت لنا ساعة النهاية ، وهل هناك من يحسب حسابا للقدرة وعدم الاستطاعة واللهاث العاجز ؟

حين يصبح اختلاق مشكله هو الملاذ الآمن والباب الوحيد المفتوح لدخول عالم اللاشعور تكون الحياة قد فقدت مصداقيتها وإنسانيتها ويكون كلّي القدرة قاب قوسين أو أدنى إلى الاضمحلال واكون أنا قد غادرت مملكة العقلاء وولجت عالم المستلَبين وحميت نفسي من مغبة التفكير الذي يؤدي إلى الخزي والعار والنكوص ، وعذري الوحيد أنى لا املك غير هذا ، ثم إن الذنب ذنبها فجسدها يوحي بالدمار اللذيذ وأنا ذرة معلقه في مساحة الكون الذي لم أساهم في خلقه ولكنه سبب دماري . كانت تتعامل معي ككلب للزينه أو كطفل لا يوحي سوى بالبراءة وهي تطوف في أرجاء المنزل بثوب شفيف تقف في مجرى ضياء الشمس التي تمد إليها أيدٍ من النور تحدد تقاسيم الجسد وتمنحه دفئا لذيذا فوق دفئه الأثير الذي لا زلت اذكره رغم مرور الشهور والسنين .. وأنا أمامها امتطي حصانا هائجا على حافة بركان . أدير كرسي العجلات الذي يحملني .. تواجهني زهرية أجد نفسي أمامها وأمام اختبار رائع للذة حين امسكها بيدي واقذف بها النافذة لتتكسر كما روحي إلى أجزاء صغيرة تفقد معنى وجودها ولتختلط شظايا الزهرية مع شظايا الزجاج كما يختلط الآن يأسي مع جسدها المتجبر اليائس !. كان الأمر اكثر من احتمالها فهي في النهاية تريد من يقدر وجودها وإنسانيتها وبدرجه اكثر من الدقة ... جسدها مع ما يثيره من مجال حسي ، وهي بنفس الوقت تعرف أنه اكثر من احتمالي أنا الآخر ولكن الفعل الإنساني ..التصرف الأمثل للبشر في مثل هذه الحالة لا يخضع لمنطق الأشياء عند الملائكة فهذا فوق الاحتمالات ولكنه مع ذلك كان تصرفا لا يفي بالغرض لان رد الفعل الوحيد الذي من الممكن أن يكون بمستوى الحدث هو إغماد سكين في قلبي أو تحطيم شيء ثقيل على رأسي ..إلا أنها اكتفت بان توجهت إلى النافذة وأخذت تعالج القطعة المتبقية من اثر التحطم حتى اقتلعتها ثم رمت بها على الأرض مع باقي الحطام ثم غادرت الغرفة . بقيت انظر إلى الحطام داخل نفسي .. أحاول أن ألملمه دون جدوى . مضيت بكرسيي إلى غرفة النوم ..كانت ترقد منكفئة وقد غطت وجهها بإحدى ذراعيها ساحبه أحد ساقيها إلى الأعلى فصارت تجسيما رائعا للفتنه الغاضبة بالتفاف الثوب على جسدها ..ناديتها فلم ترد ..وضعت يدي على وركها فلم تتحرك ..أحسست بالنار الأزلية تفعل فعلها اسفل البطن ولكني كنت كفاقد الساق الذي يشعر بتنملها وهي مبتورة وبعيدة عنه ، أنزلت يدي على طول ساقها المنثنية حتى احتضنت كفي كعب قدمها وتحسست مليا نعومتها واستدارتها وكما تتسلق النملة تلا تسلقت يدي تفاصيل الجسد المهمَل ..الجسد الذي كان في هذه اللحظة مقتولا وقاتلا ..كان هناك مشروع حركه ولكنها استكانت ببرودة مدمره ..وحين وصلت يدي إلى أحد نهديها رفعت يدها فوق رأسها وواجهت عيني ..وللحظة أحسست بان الصراع في عقلها كان قنبلة موقوتة ..

-اقتلني أو طلقني.

قالت وهي تنظر إلى يدي التي توقفت عن مداعبة جسدها كمن ينظر إلى سلاح جريمة سترتكب بحقه وقد كان ما افعله اشد وقعا من جريمة قتل ترتكب على فراش زوجة محرومة ..ففي حين كان الموت هو نهاية حياة ما أو أمر ما كأن يكون فرحا أو حزنا أو لذة أو..أو.. فان ما افعله كان بداية لأمر ما لا بد أن يكون في قمة اليأس ..كنت احرث الحقل ولا ازرعه ..بل ولا اسقيه حتى .

-اقتلني (قالت بصورة اشد صخبا من سقوط إناء معدني في غرفه عارية ) سأكتب اعترافا باني انتحرت ولكن ارحمني فقط .

كان فعلها يشبه توسل طفل كي لا تضربه . كان بإمكاني أن أقول لها أني احبها وهو حب لا يخضع لمنطق الامتلاك أو الحماية بل هو استكمالا لفهمي الناقص لجدية الحياة أو مدى ملاءمتها لمن هو مثلي وكان بإمكاني أن أقول لها إني سأقتلها ثم اقتل نفسي ولكني ساكون حينها قد تلاعبت بالألفاظ لا اكثر فأنا لست اكثر من بقية النافذة التي رمتها أرضا .

-ألم تعودي تحبينني ؟. قلت متخاذلا

-هل نتكلم بصراحة ؟

-وهل هناك صراحة اكثر مما نحن فيه ؟! أجبت مبتسما

اعتدلت وأنزلت ساقيها وصارت أمامي . قلت شاعرا بأزيز الرصاصة التي ستصلني حتما ..

-لا تترددي

قالت بيأس ..

-لا تظن الأمر سهلا ..الشرح سيعقده رغم انه لا يحتاج إلى شرح.

كانت تقول بعبارة مهذبة ( يجب أن ترى نفسك في المرآة ) ولكني تجاهلت هذا ومضيت حتى النهاية ..ورغم أن عقلي كان مشوشا إلا أن فكرة وحيده كانت تحاصرني .. من سيطلق رصاصة الرحمة ؟ أنا أم هي ؟

-أيمكن أن تتركني للحظات وسوف الحق بك ؟

استدرت وخرجت من الغرفة وأنا اكبت رغبة في داخلي للبقاء فهي حتما ستخلع ثوبها وتغيره لأنه ثوب لا يصلح لهذه المناسبة . مضيت إلى الصالة وتوجهت إلى الشباك وداست عجلات مقعدي على حطام النافذة ..حفلت كأن الصوت كان بداخلي .جاءت ترتدي ثوباً يستر جسدها كله وارتمت على أول مقعد صادفها .قالت بعد أن وضعت يدها في حجرها ..

-هل لي أن أسألك سؤالاً ؟

كان طلبا لا يحتمل الرد بل كان تمهيدا لترطيب الفم وتحضير الكلمة التي ستقول كل شيء فلم تنتظر جوابي واستمرت ..

-لو كان وضعنا عكس ما هو عليه فكيف سيكون فعلك ؟

كان من الصعوبة التكهن بأي جواب من الممكن أن ينهي المسالة بسهوله .

-لست ادري .

-أما أنا فاعلم .. ستصبر عدة شهور أو حتى سنة ثم ستقوم بأحد أمرين .. أن تتزوج أو أن تجد ملاذا عند أخريات .

-ربما.. لكن في الحالين فلن أتركك.

-هذا لان لديك البديل ..أما أنا ..أما أنا .. فماذا افعل ؟ هل سأتزوج بآخر ؟ أم ارمي نفسي في أحضان الآخرين ؟ إن الأول مستحيل والثاني لا أرضاه لنفسي ولا ترضاه أنت مهما كانت الأسباب ..إذن أليس من الأفضل أن تطلقني أو أن تقتلني ؟

إن الأمر بعد كل الاحتمالات لم يكن تعجيزا فهو أمر حقيقي وعلى درجة مرعبة من الحقيقة ولم يكن أمامي في هذا الوقت سوى انتظار ما يمكن أن يسفر عنه النقاش الذي هو من جانب واحد ..فأنا اعلم الناس بصعوبة المسألة التي هي فوق احتمال البشر على الأقل وهذا هو لب الموضوع أما باقي المسميات فإنها ليست اكثر من حذلقة لغوية لا طائل من ورائها إلا محاولة النظر في الظلمة أو السباحة في نهر من الطين اللزج . كان جوابي على سؤالها بمنتهى السذاجة إن لم يكن بمنتهى الغباء..

-أليس من الممكن أن تقتليني أنت فتريحين وتستريحين ؟.

ومرة أخرى كان جوابها بشريا ..

-ليس هذا هو المطلوب بل أن نعيش كلانا ولكن بما يرضي الجميع .

-هل تعتقدين حقا أنى أعيش بدونك ؟!

-اسأل نفسك أولا .. هل تريدني كأي شيء مكمل في هذا البيت دون روح ودون حضور ودون أي شيء يربطني بعالم البشر ؟ سأعيش معك كما لو كنت ميته وسوف لن تحتمل رؤيتي بعد فتره تطول أو تقصر .. سأذوي واحتضر أو ربما تكون الكارثة ..أن ...

-لا تكملي .

كان من الممكن أن يكون تكملة كلامها أي شيء ولكني لن احتمله ..فربما ستقول ..انتحر أو انحرف وكلها أمور ليس بمقدوري تحملها .لملمت بقايا كرامتي فالأمر في النهاية هو توسل لشيء صعب الاحتمال .قلت لها ..

-هل ستمنحيني وقتا لتسمعي قراري الأخير

-بل سأمنحك كل الوقت .. ثم لا تظن أنى سأتركك هكذا ..إن ما كان بيننا يجعلني حريصة على أن أرتب أمورك على احسن وجه.

-لا تشغلي بالك فالأمر سيان .

نعم ان الأمر سيان ..انه ليس فقدان إصبع أو ساق ..انه إلغاء لأمور اكثر واقعية واكثر حميمية ..انه إلغاء لسنين من الحب والجنون والقلق والتحسب ونكران الذات لكلينا ..انه الذوبان في أمور حياتية ما كانت لتكون لولا وجودنا مع بعض ولولا وجود ما يربطنا الواحد بالآخر دون الناس جميعا بتفرد أثير إلى القلب دون ضغينة أو حقد وعلى الأرجح سيستمر الوضع على ما هو عليه من المودة بالنسبة لي على الأقل فأنا الوحيد الذي سيادفع عنها أمام العالم فأنا الوحيد الذي يمكنه أن يعرف ما الذي يعنيه أن تكون عاجزا لعامين كاملين ( ودون أمل في المستقبل ) عن فعل الشيء الوحيد الذي يتطلبه الحب ..والحب وحده ( ويا للحيرة ) هو الذي يدفعني للإبقاء عليها تحت رحمة الألم لان هذا هو الشيء الوحيد الذي أريده في هذه الدنيا وهو الشيء الوحيد الذي إذا حققته فاني أكون قد خالفت شرائع الحب الذي سنّت منذ الأزل . حين استدرت بمقعدي طالعني وجه الله ..كانت الصورة التي أمامي تمثل طفلة رائعة الجمال ترفع يدين مبتهلتين إلى السماء ..نظرت إلى يدي ثم رفعتهما رويدا رويدا لتأخذ وضع الابتهال كما في الصورة ..كنت بإبطاء حركتي أريد أن آخذ وقتا لأعرف مالذي سأطلبه ..فقد كنت حائرا بين أن يضلّها الله أو ان يهديني وفي الحالين فأنني اخسر .

mohshah65@yahoo.com


هناك تعليقان (2):

بان جنوبي يقول...

الله يا شهرباني انت دائما وابدا رائع في كل شي حتى في خيالك الخصب الى الامام يا مبدع الى الامام دون توقف

منتدى شهربان الثقافي يقول...

تحياتي لك بان جنوبي وامنياتي ان نجد اسمك قريبا بين اسماء المبدعين لتكوني وجها مشرقا لعراقيينا الذين في الغربة