الأحد، 12 فبراير 2012

سليمان البكري ... شيخ الأدباء الشباب في ديالى
ماجد الحيدر



تعود علاقتي الجميلة الحميمة بالأستاذ العزيز سليمان البكري الى أواسط الثمانينات من القرن الماضي. كنت قد انتقلت حديثا الى شهربان فسمعت عنه وطلبت عن طريق أشخاص آخرين رؤيته والتعرف عليه. دعاني لقضاء أمسية في أحد نوادي المدينة (لم تكن الحملة الإيمانية سيئة الصيت قد ختمت بعد بالسيوف والشمع الأسود على النزر اليسير مما تبقى من أماكن "الفسق والفجور" الجميلة في بلادنا). جلسنا معا وتحدثنا طويلاً في شؤون الأدب والثقافة.. وأحسست على الفور بالقدر الكبير من الطيبة ودماثة الخلق والتواضع والثقافة التي يحملها هذا الرجل. وسرعان ما انعقدت بيننا أواصر صداقة قوية، جميلة، مثمرة، لم تهزها السنوات.
أذكر أنني قدمت له مخطوطة بعدد من تجاربي الشعرية المبكرة فتسلمها مني بمحبة ووعدني بقراءتها ملياً لكنه اعتذر عن إبداء رأيه بها كناقدٍ لكونه كما قال متخصص في ميدان النقد القصصي والروائي، غير أنه وعدني بأن يوصلها الى صديقه الشاعر محمد الصيداوي ليقول كلمته فيها. ولم تمض عدة أيام حتى أعاد لي المخطوطة مشفوعة بصفحة كبيرة عبر فيها الصيداوي (بخطه الأنيق وأسلوبه الجميل) عن دهشته بها وتطلعه للتعارف فكان أن جمعتنا نحن الثلاثة (منذ تلك الأيام) علاقة وطيدة ولقاءات شبه يومية جعلت الناس في تلك المدينة يعتادون على رؤية هذا الثلاثي معا في كثير من الأماكن.
بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية صارت عيادتي الطبية (وأحيانا على مقهى صغير على قارعة الطريق) مكان لقاءاتنا اليومية. وشيئا فشيئاً صار ينضم الى جلساتنا المسائية (وعلى رائحة القهوة اللذيذة التي سرق مني حسين رشيد سر صنعتها حتى تفوق عليّ فيها) العديد من المثقفين والمهتمين بالشؤون الأدبية: الكاتب د. أسعد محمد تقي، القاص مهند الشهرباني، القاص حسين رشيد، الشاعر د. محمد عبد الدلة، الشاعر والأكاديمي د. كمال الخيلاني، التربوي الراحل غانم نوري، المترجم والخطاط عبد الكريم إسماعيل، القاص عمران الغانم، القاص حسن مهدي هادي، المترجم والأكاديمي باسل محمد خضير.. وغيرهم. ومن تلك الجلسات، وهذه النواة الصغيرة تشكلت فيما بعد الهيئة الإدارية لمنتدى شهربان الثقافي الذي تشرفت بتحويل نصف عيادتي الى مقر دائم له، والذي اختار بالاجماع أستاذنا وصديقنا البكري ليكون رئيساً له فيما توليت إدارة شؤونه بصفتي سكرتيراً للمنتدى.
في تلك الجلسات، وفي جميع الفعاليات والندوات والاحتفاليات التي أقامها المنتدى كان للبكري حضوره المؤثر الفعال سواء في إدارة وتقديم العديد منها أو في تقديم الدعم المعنوي والإرشاد للأدباء الشباب الذين خرجوا من معطف المنتدى، مثلما ساهم بالتعريف بالمذاهب النقدية المعاصرة والأساليب الحديثة والتجريبية في فنون القصة والرواية.
يتمتع البكري بشبكة واسعة من الصداقات والزمالات الأدبية التي كان فيها مثالاً للتواضع والخلق الرفيع: منها ما جمعته ونخبة من جيل أساتذته في النقد والقصة مثل خالدي الذكر علي جواد الطاهر وعناد غزوان (الذي استقبلناه في المدينة بمحبة وفخر) وجبرا ابراهيم جبرا وغيرهم، ومنها ما ضمه ومجايليه من المبدعين والنقاد مثل عبد الرحمن مجيد الربيعي (الذي أصدر عنه عام 1972 كتابه النقدي عبد الرحمن مجيد الربيعي وتجديد القصة العراقية، وأحمد خلف وفاضل ثامر ويوسف الحيدري ومحي الدين زنكنه (الذي تشرفنا باستقباله في احتفالية صغيرة رائعة) وغازي العبادي وياسين النصير ومحمود عبد الوهاب وجاسم عاصي وناجح المعموري وشاكر نوري وحاتم الصكر ولطفية الدليمي وابتسام عبد الله (التي عرفني عليها في التسعينات) والشطر الأكبر ممن بات يعرف بجيل الستينات من الأدباء والنقاد العراقيين، ومنها أخيراً ما يجمعه والجيل الأحدث من الكتاب (وخصوصاً من مبدعي ديالى الذين نهلوا من محبته ورعايته مثل صلاح زنكنه ومحمد الأحمد وشيماء المقدادي والشهيد مؤيد سامي وحسين رشيد ومهند الشهرباني وغيرهم الكثير الكثير ممن لا يتسع المجال لذكرهم)
ضرب البكري في حياته وسلوكه مثالاً للمثقف العضوي الذي دعا اليه غرامشي: عمل تربوياً في مجال تعليم اللغة الانكليزية ورعاية المواهب الفتية فكان مثالاً للمربي الناجح المحبوب، وأصدر العديد من المؤلفات النقدية والقصصية (منها على سبيل المثال: أدب الرفض الأمريكي ( دراسات نقدية ) 1996 والتجديد في القصة والرواية ( دراسات نقدية ) 2000، في ظل ليمون – مجموعة قصصية مشتركة 2000 ناهيك عما ورد في ثنايا هذه المقالة أو ما ينتظر النشر من مؤلفاته ومنها مجموعة قصصية بعنوان ظل السفر الاتي، ومجموعة دراسات نقدية بعنوان الرؤية والأداة) كما قدم المئات من القصص والمقالات النقدية والدراسات والمحاضرات والندوات، وساهم بفعالية في النضال السياسي في جبهة اليسار العراقي في الستينات ونال قسطه من الاعتقال والملاحقة والإبعاد والتعذيب والنفي الداخلي، وحين كان ينقل قسرياً الى إحدى تلك المنافي الداخلية سرعان ما كان يندمج في الحياة الثقافية في مكانه الجديد، ونذكر هنا مساهماته في الصحافة والتمثيل والفن التشكيلي في لواء الناصرية الذي ابعد اليه ذات مرة، وكان ممن أسسوا أوائل عام 1968 ما يمكن أن يعد أول مجلة عراقية متخصصة بالقصة القصيرة (مجلة القصة التي صدر منها عددان بتمويل ذاتي ثم منعت من الصدور). وكان كذلك من الأعضاء المؤسسين لاتحاد الأدباء والكتاب-فرع ديالى، وترأس دورتيه الأولى والثانية، ناهيك عن ترؤسه لمنتدى شهربان الثقافي، وظل حتى فترة قريبة متابعاً دؤوباً وكاتبا غزيز الانتاج كثير القراءة (الى أن منعه الأطباء منها حرصا على سلامة عينيه). وهو يحتفظ في منزله الصغير الأنيق بمكتبة عامرة تضم المئات من الإهداءات الشخصية من المؤلفين الذي يحرصون على سماع رأيه ومتابعته النقدية لأعمالهم. وكان لأستاذنا الجليل مساهمته الريادية في أرشفة وتوثيق تاريخ القصة القصية في محافظة ديالى عبر دراسة مطولة غطى فيها ما يزيد على نصف قرن من هذا الفن الجميل في ديالى.
وربما لا يعرف الكثيرون ممن عرفوه ناقداً مثابراً، أن البكري بدأ حياته الأدبية قاصاً وروائياً وأصدر بالفعل روايته الأولى "مدار الأشياء المرفوضة-1970" غير أن مشروعه القصصي تأثر كثيراً حين رفض الرقيب (الناقد المعروف المرحوم...) إجازة روايته الثانية "رجال في ليل المدينة- التي صدرت لاحقاً بعد سقوط الدكتاتورية" وكثيراً ما ضحكنا وهو يريني التقرير "المسخّم" الذي كتبه الرقيب والذي يصر على رفض الرواية ما لم تجر الإشارة بالنص الصريح على أن حزب البعث العربي الإشتراكي هو المقصود بالحزب الذي ينتمي له أبطال الرواية الذين يتحدون السلطة القاسمية... الخ" رغم أن الرواية تدور (وبشكل واضح لم يفت الرقيب) حول فترة عصيبة من القمع الوحشي الذي تعرض له الحزب الشيوعي نتيجة اختلافه مع الزعيم عبد الكريم قاسم حول سياساته المتذبذة وشنه الحرب في كردستان الخ، وجو الصراع النفسي والفكري الذي يعيشه أعضاء لجنة حزبية في إحدى المدن الصغيرة إزاء قرار بتأجيل المواجهة أو تصعيدها وتحمل عواقب القمع. المضحك أن إحدى جهات النشر الحكومية في العهد الجديد اعتذرت هي الأخرى عن نشر أحد المؤلفات النقدية الأخيرة للصديق البكري بدعوى أنها تضم دراسة عن القاص البعثي (... !!). وكان من الطبيعي أن تختلف الرواية عند صدورها بعد كل هذه العقود في وقعها (مضموناً وأسلوباً) عما لو كانت صدرت في وقتها، وإلا لكنا قد عرفنا سليمان البكري روائياً وقاصاً لا ناقدا!
طوال الأعوام التي صاحبته فيها، ظل صديقي محتفظاً بحضوره البهي وهدوئه المحبب، ولم أره غاضباً غضبا عارماً الا في مناسبات تعد على أصابع اليد. لكنني أعترف بأنني شهدت أيضا العديد من لحظاته الحزينة.. لحظات التعب والإحساس باللاجدوى وكآبة المبدعين الحساسين، لحظات رثاء النفس ونعي سني العمر وفرصها الضائعه.. والبكاء.. ذلك البكاء الصامت الذي لم يخجل أحد من صحبي من الاذعان له أمامي ولو لمرة واحدة، وكأن ذلك الكرسي الجلدي القديم الذي يغرقون فيه بغرفتي يلقي عليهم تعويذة سحرية ما، تغريهم بالبوح وبث الهموم..
لكن تلك الغرفة شهدت لحظات أخرى.. لحظات من سرد لذكريات عزيزة يقصها صديقي بطريقة جميلة لا تمل من تكرار سماعها ومشاركته الضحك فيها.. ذكريات الطفولة والشباب ومغامراتها وهَوَسه بالرياضة والسباحة وإقدامه الدرامي ذات يوم على إنقاذ طالبة شابة قادمة في سفرة مدرسية من الغرق في مياه "الصدور" والدراجة الهوائية التي يذهب بها الى أول مدرسة قروية تعين بها وهو يترنم بمطولات محمد عبد الوهاب والنهارات الكاملة في المكتبة العامة العامرة (تلك الجنة الصغيرة التي ضربها إعصار العنف والهمجية واللصوصية). زيارة رضا علي الى المدينة وتسلقه جدران بيت مجاور لرؤيته وهو يغني للراقصة التي تهتز بغنج على صوته.. عيني دكصري الثوب غازية خطر! ذكريات الفرقة المسرحية في الناصرية والمقلب الذي عمله فيهم حسين نعمة الذي امتنع عن حضور افتتاح العرض مالم يشتروا له قميصا وحذاءً جديدين! ذكريات النضال السياسي والملاحقة والضرب المبرح ومداهمات شرطة الأمن الأغبياء ومصادرة الكتب ومنها مذكرات جيمس دين الذي ظنه مفوض الشرطة الجاهل واحداً من القادة الشيوعيين العالميين!
يعيش صديقي الكبير هذه الأيام في شبه عزلة اختارها جزئيا مثلما فرضتها عليه ظروفه الصحية وحالة الفوضى والعنف والإرهاب وإراقة الدماء التي أعقبت الاحتلال وتشتت شمل حلقة الأصدقاء الجميلة التي كان يحتضنها منتدى شهربان الثقافي.. لكنه ظل أباً عزيزاً وصديقاً رائعاً وقامةً شامخة يفخر بها محبوه وقراؤه وتلاميذه وزملاؤه الذين كرموه في أكثر من مناسبة منها نيله قلادة العنقاء عن دار القصة العراقية ودرع الجواهري الذي قدمه له الشاعر الكبير ألفريد سمعان لأمين العام لاتحاد الأدباء في احتفالية أقيمت له مؤخراً كما رشحه الاتحاد ليكون عضواً في المجلس الأعلى للثقافة التي لم ير النور بعد..
تحية محبة وعرفان وعمراً مديداً لصديقنا واستاذنا وزميلنا الحبيب شيخ الأدباء الشباب في ديالى الأديب الكبير سليمان البكري!