الأحد، 27 يونيو 2010


إطلالة ٌ على العالم الآخر
شعر محمد الصيداوي




خمسْ منيّاتٍ كحمائم أجملَ من لونِ الطيفِ الشمسيِّ
وقفنَ عليّ قُبيلَ صياح الديك الجنيّ..!
تَوَزَّعنَ الجسدَ المشحونَ
بداءِ السّكِر والضغطِ العالي
حتى شبكاتِ القلبِ وبالوناتِ الشريانِ المُنسَّدِ..
حَيّيْنَ مكوثي فرددتُ
وصافحنَ فؤادي، لكنْ لم يلمسْنَ قميصي!!
قُلنَ: زيارتُنا لا تستغرقُ أكثرَ
من نَفَسٍ... قلتُ وإنّي
قد هُيّئتُ لَكُنَّ..
همستْ واحدةٌ -وأنا اهتزُّ من الحفلِ الآتي-
أينَ السادسةُ الصغرى ذاتُ الأزميل ؟؟!
فأجابتْ أخرى: هي في الوادي الأسودِ تبحثُ
عن حجرِ الكوبلتِ الماسيِّ لتصنعَ منه رقيماً
للشاعرِ قبلَ البعثة!!
قالتْ أخرى: أينَ السابعةُ القارئةُ الغيبَ ؟؟
وفَتَحْنَ عيوناً مثلَ ثقوبٍ سودٍ فيها
كلُّ بقايا الكونِ المطمور !!
تراجعنَ قليلاً .. فسمعتُ غناءً وبكاءً
يملأُ روحي..!!
هوذا صوت القارئةِ الغيبَ..
يتماوجُ في قدمي..!
قالت: "لم اعثر حتى الآن ومنذ الآن على روح الشاعر مابين الأرواح"
هائمةٌ هذي الروح.. لا تتماكنُ أبداً
قالت "عُدن َ اليَّ سريعاً" وبكت ْ
فبكينَ عليَّ كثيراً.. وبكيتُ عليّْ..
لكني حرّضتُ النار المشبوبةَ في إطراف سكوني ضدي.!
والماءَ الدافقَ من غيمةِ خوفي أن يسألهُنَّ
علامَ تُبادرنَ العودَ بلا ضوء ..؟!
أومأْنَ وقُلْنَ: الشاعرُ لا تَحملهُ
إلا سبعُ حماماتٍ منّا.. عذراً .. عذراً
ورجعن! بلا ضوء !!

الأربعاء، 16 يونيو 2010

وجهك قطعة شوكولاتة
جوزفين كوركيس

الاهداء /الى كل رجل شعر في لحظة صدق بأنه منحلّ

تلقيت دعوة لحضور ندوة لحضور إحدى الندوات العامة. لم أعد أتذكر من دعاني اليها لكنني جئت وكلّي فضول لأن كل ما يتعلق ببلدي وخاصة مدينتي (كركوك) يهمني كثيراً لذلك رأيتني جئت لأراقب الحدث عن كثب، .فأنا أتابع أخبار بلدتي لحظة بلحظة، وهذا الفضول كثيراً ما وضعني في أماكن يفترض أن لا أتواجد فيها.. دخلت القاعة الغاصّة وتعمّدتُ الجلوس في الصف الأخير بعيداً عن الأنظار وعن وسائل الإعلام التي تهتم بامورنا اكثر منا. لم أكن أعرف من يدير الندوة لكن كل ما قيل فيها كان كلاماً معسولاً ومصقولاً ومقبولاً... آه وغير معمول به بكل تأكيد. وكان الحوار الشيق يمنحنا أحلاما وردية وكلٌ يتحدث مع الآخر بلغة مختلفة لكنها مليئة بالود.، فأهل هذه المدينة كما تعرفون أناسٌ طيبون يحترمون كل من يمنحهم الأماني و الأحلام الوردية و الكل يردد "لا باس، إنها الديمقراطية وعلينا التحلي بالصبر"
جاء صديقي و جلس على جانبي الأيمن وهمس في أذني "انصرفي من هنا.. تذكري أننا في كركوك"
أجبت بخبث "اعتقد أنني اعرف أين أنا"
ثم همس ثانيةً "سأغفو قليلا.. حين تنتهي هذه المهزلة أيقظيني" ثم اسند كلتا يداه فوق عكازته وتظاهر بالاستماع وغفا.
تعجبت منه وكيف تغير. أين همته ومشاركاته في حوارات كانت تنتهي دائما لصالحه؟ لعل المرض أتعبه. اذكر كيف كان يحدثني قبل مرضه عن كل صغيرة وكبيرة وعن عدد عشيقاته و حبّه الوله لزوجته. هذا الرجل حمّلني همومه أمانةً عندي وها أنا الآن أجد نفسي مثقلة بهمومه و هو غارق في نومه على عكازته كطفل برىء أتعبه اللعب.
جاء رجل آخر لا اعرفه وجلس بجانبي الأيسر فلفتت انتباهي على الفور سمرته التى تشبه لون الشوكولاتا. كان وجهه يسيح عرقا من شدة الحر في القاعة كما تسيح الشوكولاتا.
نكأت رؤيته جراحاتي القديمة... حاولت تجنبه لذا اتكأت على صديقي محاولة ايقاظه وهو يرفض الاستماع الي ويردد "اتركي القاعة وعودي دارك متى ستعقلين!" قلت له "يوم اغفو مثلك على عكازتي" قال "اذن دعيني اغفو و تابعي انت الحدث ثم اخبريني بما جرى"
تملكني شعور غريب تجاه هذا الاسمر الغريب و اكتشفت في تلك اللحظة ان المرأة لا تصلح ان تتبوأ اي كرسي سوى (كوشة الزفاف) و تمنيت في قرارة نفسي ان تتخلى كل النساء عن مناصبهن وأن يتركن اللعب للرجال فملعب الرئاسة وجدته لا يصلح للمرأة!
صديقي نائم و الرجل الاخر هائم بعالمه والندوة تدور حسب الاصول والكل يتحث بصوت واحد دون ان يستمع الى الآخر لأن الكل مقتنع برأيه.. من غير المهم أن يفهم كل الآخر بل المهم أن تقام الندوة!
إلتقطت عبارة قالها هذا الاسمر بصوت شبه مسموع "صوتك مصيدتك" لكن احدا لم يبالِ به لان الكل مشغول في محاولة اثبات وجوده. شعرت بالعجز وباتت الندوة لا تهمني فكل همي انصب على تلك العبارة التي بدرت من ذلك الاسمر (المطعَّم بالشوكولاته) وكي اتخلص مما انا به ايقظت صديقي كي اودعه لانني قررت فجأة المغادرة. قلت له "هيا اكمل انت بعدي فأنا تاخرت". تثاءب صديقي وهو يلوح لي. ثم عاد ليكمل نومه، وخرجت انا ابحث عن لفحة هواء. وفوجئت بأن ذلك الغريب قد خرج بعدي محاولا ايقافي:
"هل لي بمحادثتك رجاءً؟" تسمرت واستدرت وقلت "تفضل ماذا تريد؟" قال "فقط ندردش قليلا، ما رأيك في أن ندخل الى الكفتيريا؟"
جدت نفسي منصاعة اليه وتبعته كمن يتبع درويشا ويطيعه بكل فخر أو كغريب لا يعرف الى اين يمضي. جلسنا متقابلين و أشار للنادل طالبا بصوته الهادئ الرزين "من فضلك كوبان من الشاي ويفضل بالحليب" اخرج علبة دخانه وشرع يدخن منتظرا المبادرة بالحديث. يبدو انه يود ان يستمع الي وانا ليس لي ما اقوله له فهو غريب و انا امرأة فضولية مضت اكثر من خمسة دقائق ونحن صامتان ثم كسرت طوق الصمت قائلة "ترى ماذا كنت تعني بعبارتك تلك: صوتك مصيدتك؟" تأملني و تنهد قائلا "اننا مسؤولون عن الذى سيتولانا والويل لنا لو اخطأنا في ذلك برغم أن الفرز يكون عادةً لصالح من اُّنتخبوا مسبقا، فإن ما نقوم به مجرد شكليات وخدع .... اننا نتلاعب بمصيرنا واتمنى ان لا تنتهي هذه اللعبة بخسارتنا كعادتنا دائما"
كنت اراقب يده وهو ينقر فوق الطاولة اثناء حديثه معي، وتذكرت ان يده تشبه يد حبيبي الذي ظننت أنني لم اعد اهواه أو اتذكره. شعرت كم افتقده. في تلك اللحظة شرد هذا الغريب بعيدا دون ان يلاحظ ارتباكي، وكان صوت المغنية الحزينة يأتي من آخر القاعة ويرن في اذناي وهي تسأل الزمان كي يبعد خيال حبيبها وجراح ذكرياته، لكن حبه لم يبعد عني، وجرحه لا زال كما هو... فلأحاول إذن أن أتملص من هذا الغريب...ما لي انا و ما له؟
عاد من تشرده الي وهو يسألني "هل لي بمعرفة اسمك؟" قلت له و انا احول سؤالي اليه "صحيح اننا لم نتعارف. هل انت من الجنوب؟" أجاب "وما الذي يجعلك تعتقدين بأنني رجل جنوبي؟" قلت "بصراحة سمرتك توحي لي بذلك" اجاب "آسف، خيبت ظنك، فانا ابن كركوك بالاحرى ابن "قوريا"" ثم اضاف "تصوري انا حين لمحتك جالسة هناك ظننتك صحفية و ذهبت ابعد منك؛ ظننتك هندية بظفيرتك السوداء و بشرتك الخمرية" قلت "وانا ايضا يبدو خيبت ظنك. انا من "شاطرلو"" اجاب "يعني ابنة منطقتي". ثم شرعنا نشرب الشاي ولما وضع يده الكبيرة التي تشبه يد حبيبي فوق يدي وقال لي بود وكأنه يعرفني منذ زمن بعيد "لماذا جلست معي ان كنت لا تثقين بي؟ اشربي شايكِ واذهبي بسلام" قلت بتذمر مفتعل بعد ان سحبت يدي "لا ابدا فنحن في مكان عام" اعاد يده ثانية فوق يدي وشل جزءً مني وبقي الجزء الآخر يقظاً يتفرس في وجهه الدافئ باحثاً عن مبررٍ لجلوسي معه. سألني وهو ينفث خيطاً طويلاً من دخان سيكارته "الا تلاحظين اننا ننجذب لبعضنا؟" قلت "لعلها الكيمياء" أبتسم و أفلتت منه نظرة انكسار.
تذكرت حبيبي وكيف كنت التقط فلتاته الثمينة بين قشات اهماله لي .. اشعل سيكارة أخرى وقال لي "اعرف أنني لفتُّ نظرك لذلك جريت خلفك؛ أنت امرأة مثيرة.. كل شئ فيك مثير ويقود الى الفضول" قلت وانا الاطفه "وانت تشبه قطعة شوكولاته". صمتُّ و صمتَ هو ايضا لكن المغنية الحزينة ما زالت تسأل الزمان أن ينسيها حبيبها. ترك يدي فشعرت بالخيبة. اتكأ فوق كرسيه ثم قال:
"انا يا سيدتي أُدعا "فخري" علما بأنني لست فخورا بنفسي.. كنت عقيدا في الجيش السابق (المنحلّ) وانا فعلا منحل اخلاقيا وعمليا وكما ترين لست مباليا؛ فمن اكون انا قبالة وطن سقط وانحل.. كلنا الآن ساقطون منحلون. صحيحٌ أنّ سقوط هذا البلد خدم بعضا من الذين كانوا على شفير الهلاك اما الباقين فتراهم في حالة احباط. لو سألتيني عن رأيي لقلتُ لك أن الكل منحل أو مجمد أو مؤجل حتى اشعار اخر. اتمنى ان لا تخدعك وسامتي فأنا لست سوى رجل منحل يموت في كل يوم عشرات المرات. اتعرفين ماذا يعني لرجل مثلي حين يسير في وطنه وهو يرى الغرباء يتبخترون في شوارعه وكأنهم أصحاب الأرض. فصدقي لا شئ يهمني بعد سقوط بلدي ولم تعد الاحداث تفرحني ولا تحزنني فأنا لست سوى رجل مشلول لكن مطعَّم بالشوكولاتة كما لقبتني"
ضحكت بمرارة على تعليقه اضاف قائلا تصوري يوم طلبت زوجتي الطلاق مني بعد زواج دام عشرين عاماً لم اتردد لحظة برغم الاطفال والبيت ولم اسألها عن سبب طلب الطلاق.. طلقتها وانا في كامل قواي العقلية و ارتبطت بامرأة آخرى كي تكمل المشوار معي من باب الضجر ودون ان اسألها عن سبب حبها لي. واكبر فاجعة في حياتي بت انظر اليها بأستهزاء.. ببساطة لانني رجل منحل.. كنت يوما ما بطلا ولي انواط شجاعة ورتبة وشهامة فارغة وانظر الى كل هذا فلم يعد هناك سوى رجل يوحي بانه رجل يحاول ان يجد مكانا جديدا له و يمحو كل منجزاته الوهمية وحتى صوتي الذي اتمنى لو امنحه لهذا الوطن اصبح مبحوحا. آه. لكم انا مستاء! ترى متى ستنتهي ازمة هذا البلد ومتى سيدركون باننا جميعا مسؤولون عما يحدث لهذا البلد. صمت هذا الغريب الذي المني و لكم تمنيت لو انه يضمني في لحظة وتذكرت حبيبي حين كان يحدثني عن همومه وكيف كان يلعن هذا الوطن الذي لم يمنحه سوى الترهات. صدمني هذا الغريب ووضعني في حيرة ما بعدها حيرة... لماذا يفرض علي ألفته هذه؟ لماذا تحول من غريب الى صديق؟ ووددت ان اخبره عني وعن حبيبي الذي هجرني مرغما لكنني اثرت الصمت وغيرت مجرى الحديث كي اخرجه من كآبته تلك وبدأنا نطلق النكات على احداث هذا البلد الذي جردنا من كل ما كنا نملك، لكن هذا المطعّم ازداد هما واشعل سيكارة اخرى وتأملني وقال "شكرا لانك استمعت الي و لقد سررت بلقائك".. وددت ان اخبره بأنني حزنت للقاءه لكنني اثرت الصمت و لعنت الوطنية لانها لم تجلب لنا سوى الهم و اي هم قلت "يا سيد فخري بصراحة فخورة انا بك و اتمنى ان تجد حياة افضل مما كنت عليه" قال "لا اعتقد فانا رجل عسكري و صعب علّي تغيير نمط حياتي برغم خدمتي التي دامت اكثر من عشرين عاماً الا انني ارى نفسي كأني لم اقم باي شئ تجاه هذا الوطن" قلت "لكنك اديت واجبك حسب الاصول" اجاب "لكن هذا الوطن لم يكن يستحق كل هذا البلاء. تصوري اتذكر يوم ذهبت الى الكويت محاربا وحين عدت باحثا عن اهلي وجدت الحكومة قامت بترحيلهم الى تخوم الصحراء بحجة انهم اكراد ووجدت اناسا غرباء استولوا على بيتنا. لكم لعنت الوطن في تلك اللحظة!. فصدقيني برغم كل بطولاتي اشعر بانني لست سوى رجل أحمق لأنني الآن اصبحت بنظر هذا الوطن غير موجود. تصوري انا لست موجود" ثم صمت برهة وقال لي مغيرا الموضوع "انت لم تخبريني عن اسمك. اتمنى ان لا اخسرك وان اربحك كصديقة" وتذكرت يوم ضغط حبيبي فوق ساقيي النحيلتين وهو قائل بود "كوني عاقلة، لا اريد ان اخسرك فأنت تاريخي" ومن يومها لم يخسرني كما انني لم افكر قط يوما بأن اربحه. قلت للغريب الذي تحول الى صديق "أنا أسمي "سعيدة" أعمل في مجال الاعلام كمصورة وهوايتي التصوير واعشق الوجوه التي ارى فيها قوة خفية تدفعني الى معرفة ما بدواخلها وانت واحد منهم وأصور كركوك كثيرا وخصوصا المناطق القديمة مثل "شاطرلو" و "كاورباغي" و"القلعة" و "مصلى" وخاصة اسواقنا القديمة وخاصة "سوق القيصرية" و"سوق الحصير" و"سوق قوريا" ولدي ارشيف خاص بكركوك" قال "اذن انت عاشقة كركوك ياسيدة سعيدة، علما بان وجهك لا يوحي بانك سعيدة، وفرصة سعيدة يا سعيدة!"
تبادلنا التحية وارقام هواتفنا النقالة لكننا لم نلتقِ من يومها ولم نحاول الاتصال ببعضنا لان كل منا لديه ما يكفيه من المتاعب وندمت لانني لم اصوره لان كامرتي لم تكن معي يومها، الا ان صورته انطبعت في قلبي الى الابد.. ذلك الرجل المطعّم بالشوكولاته.. لعله هو الاخر هاجر مثل حبيبي.


12_12_2005

السبت، 12 يونيو 2010

النساء والمجهول
عباس كربول








في البيت المتداعي .. المركون في أحد جوانب الشارع العام تبدو الحياة ساكنة أو شبه متوقفة ، على الرغم من ضجيج المارة والسيارات .. فبابه السوداء . وبصمات الزمن الماضي ، وكآبة البناء .. كلها تجثم على شرفاته المتداعية وحديقته القاحلة إلا من بقايا أدغال ونباتات شوكية تشي بالصمت الموحش والإهمال.

نادرا ما تتحرك الحياة في شرايين البيت . فهو لا يعرف غير الهدوء والصمت الجليل ودبيب أقدام هادئة تسير في جنباته لنساء غريبات عن المدينة يحاولن أن يبنين لهن حياة خاصة داخل حجراته ، تتفق مع حاجاتهن اليومية البسيطة ، فيتحول البيت الى غرف نظيفة أنيقة.

حاولن جهد الإمكان أن يجعلن من البيت ملاذا يقضين فيه شطرا من العمر . كن جميعا بعمر الزهور الناضجة التي قدمت الكثير في تربتها الأصلية . فأينعت وردا ذا رائحة عطرة زكية تفعم القلب وتسر الناظر . وكان الصمت الرزين يخيم على جنبات البيت إلا في أوقات قليلة يصدح فيها صوت القرآن الكريم .. أو ربما موسيقى هادئة تتماوج في جنبات الدار وتبعث خدرا لذيذا في الأجساد المتعبة طوال اليوم في العمل.

هكذا هو البيت .. صومعة هادئة ، أو معبد منسي تسكنه مجموعة من النساء أشبه بالملائكة حسنا ورقة . بيت له قدسيته وسكونه وجلاله .

فجأة .. وفي صباح يوم غريب .. عج البيت بالضجيج وراحت أقدام رجال شتى تدق أرضيته و تدور في حجراته . فيما انتشرت الأنباء عبر مواسير الأفواه البشرية تتحدث عن سرقة البيت الآمن المستقر وراحت أفواج من الشرطة والإدارة تدقق وتناقش وتستنتج.

أما النساء فقد كن ثلاثاً .. إحداهن كُسِرت باب غرفتها وتبعثرت أمتعتها فوقفت مندهشة متوردة الوجنتين فيما ظهرت التجعدات على جبينها الغاضب وانتابتها مشاعر ما بين القلق والخوف والتحسب.. الأفكار تدور في رأسها المتعب في ذلك الصباح اللعين .. لماذا ؟ لماذا أنا ؟ .. تسأل نفسها .. تسأل الآخرين . أسئلة تدور في ذهنها . ولكن الإجابة تبقى مجهولة . وفي الصدر غصة ، فينمو بداخلها خيط من الشك والخوف : تبحث في سجل تعاملها اليومي فلا تجد غير الإخلاص ومحبة الناس والمرضى . تتذكر : ربما يكون هو .. ذلك الذي قالت له : " زوجتك في خطر ، لا يوجد ما يفيدها في المستشفى .. نقص "

وقبل أن تكمل انفجر غاضبا وتركها.

الصمت الحزين الوقور يجلل وجهها الغاضب .

أما الأخرى فقد ارتدت " ربطتها " البيضاء والذهول يلفها برفق كمن فقدت شيئا عزيزا .. لم تستطع أن تتكلم . لم تجد تفسيرا لهذا الغريب المجهول الملعون الذي دخل البيت . تحدث نفسها : ربما كان هو .. ذلك الرجل الطاعن في السن . حين قالت له " لا يوجد هذا الدواء " ثارت ثائرته في شباك الصيدلية وكاد يبصق عليها.

أما الثالثة .. فقد ظلت واجمة مجللة بالصمت والهدوء ولكنك تحس بخوفها المقدس وتحس بضربات قلبها الأبيض الناصع النقي . وحركة شفتيها الراعشتين تعبيرا عن القلق المشروع والخوف من هذا الذي دنس قدسية مكانهن – تجفل .. إنه هو .. ذلك الرجل الذي طالبته بورقة من الشرطة لشكها بأنه هو السبب في ضرب زوجته .. ثارت ثائرته وتكلم بلغة غير مفهومة .. وصراخ طويل ممدود.

الزمن الملعون يمضي ببطء في تلك اللحظات والشكوك من الأسئلة تدور والضجيج يخفت .. ولم يبق سوى الرؤوس الثلاثة لنساء موزعات بين أسئلة وأفكار ..

قالت الأولى : إنه مجنون .

قالت الثانية : إنه طفل لا يعي ما يفعل .

قالت الثالثة : إنه غبي ، حتما غبي .

عند المساء .. ظلت الأفكار تتناوب فتطرد النوم .. وعند الصباح .. ودعن المدينة .. الى حيث الأهل .. تاركين وراءهم كل شيء ..

إنهن يبحثن عن النوم بهدوء وسكينة .



1/4/2001

الأربعاء، 9 يونيو 2010


ناجون بالمصادفة في نادي الشعر..ماجد الحيدر يمنح كل الصفات




محمود النمر




احتفى نادي الشعر في اتحاد الادباء بمناسبة صدور ديوان (ناجون بالمصادفة) للشاعر ماجد الحيدر، قدم الاصبوحة الشاعر عمر السراي الذي رحب بالشاعر واصفا اياه الناجي بالمصادفة من زمن الاستبداد والقمع البعثي الذي اعدم شقيق الشاعر الصغير بتهمة الماركسية، وقال ان هذا الشاعر وهب نفسه للشعر والادب فكتب القصيدة والقصة وترجم الكثير من القصائد والمجاميع القصصية ،

ولاادري لعلني مهما تكلمت لااصل الى ذرة انسانية بسيطة تكره، فكيف بي اتكلم لكي اصل الى ذرات من الانسانية وهي تحب لذلك سابصر ان ارخي كلماتي بعيدا عن تقديم هذا المبدع واضعه بين قلوبكم فرحبوا معي بالشاعر المبدع.
وقرأ الشاعر بعضا من قصائده المتنوعة التي تمثل محطات تروي زمن الفجيعة والموت والالم العراقي / يوسف حين يريق الملح /ويسلم اخوته للاعراب / ويظهر في شرفات المعبد /كي يعلن توبته /عن طهر قصائده الاولى /عن سيرته قبل ظهور الرب الاوحد / سيد هذا النخل المهطع / جبار الجبارين ومحيي الخلق / ومجري الافلاك .

واشار الى تجربته القصصية مؤكدا ان السرد يحتاج الى فضاءات كبيرة ربما لايستوعبها الشعر لانها تحتاج الى تفاصيل عدة والتبصر في عملية الطرح ،بينما القصيدة هي نزف سريع ومؤلم ،وقال ان بعض القصائد تجد فيها لغة السرد .
وتطرق المترجم احمد خالص الشعلان الى أهمية هذا الشاعر الذي يحتفى به وقال : كانت تصلني اخبار عن ماجد الحيدر بانه حول عيادته الى منتدى أدبي، وبعد ان يغادر آخر المراجعين يبدأ منهاجنا الثقافي بعد ان يتجمع مثقفو المقدادية ،واليوم نحتفي بالدكتور ماجد الحيدر شاعرا وقاصا ومترجما .

واستذكر شقيق الشاعر حيدر الحيدر الايام العصيبة التي كانت تمر عليهم وعلى الشعب العراقي والتي ذهب فيها أخوهم الصغير صباح في المقابر الجماعية ،وتحدث عن ماجد الانسان والشاعر والطبيب والمترجم ، وكل هذه الصفات توحدت برجل واحد يوزع البسمة من خلال الاوجاع .

ووصف الناقد فاضل ثامر تجربة الشاعر قائلا :لقد اذهلني فيه هذا التنوع في الثقافة وهويستطيع ان يكتب القصة والقصيدة ويستطيع ان يترجم ووجدته كاتبا موسوعيا وشاملا وهي حالة مهمة والاضاءات التي قدمها عن حياته فعلا كانت مثيرة تدلل على انه ابن حاضنة ثقافية واجتماعية وسياسية خصبة ومن عائلة مناضلة قدمت كل هذا العطاء السياسي الاجتماعي وهي جديرة بان تحظى باحترام الجميع .



بعدها تمت مقارنة من قبل الناقد فاضل ثامر بين قصيدتين،بين فيها وجهات نظر متباينة في فن السرد الشعري وقال : واقول للمرة الثانية ما يمكن ان نكتبه نثرا لايصلح ان يكون شعرا الا ضمن سياق عام وانا لاادعو بالضرورة إلى المبالغة بالانزياحات البلاغية والاسلوبية والشعرية هنالك في بعض الحالات تبدو القصيدة كشفاً لاحداث يومية مثل قصائد الشاعر كاظم الحجاج وقصائد الشاعر موفق محمد .

وفي الختام قرأ الشاعر عددا من قصائد الديوان،ففي قصيدة –اغنية شارع المتنبي -/ مثل كلب شريد بمقلتين شاردتين دامعتين /اقبض باسناني على كتابي /واركض من زقاق لزقاق / يلاحقني الرفاق /والغوغاء / والائمة المزيفون / والسماسرة /والذباب /وكالكلب الهث لااحمل شيئا / غير هذا الكتاب اللعين /ازززز! /رصاصة فوق رأسي / واخرى بين ساقي ّ /( اين الخرابة المهجورة لماذا ضللت إليها الطريق ) ازززز! /رصاصة بين ساقيّ /واخرى في جبهتي /وثالثة في الكتاب!.

نشرت في جريدة المدى
العدد (1817) الاربعاء 9/06/2010

الثلاثاء، 1 يونيو 2010


الشاهدُ والنهر


نص : حسن مهدي هادي

الى الأستاذ محي الدين زنكنه .. شاهداً على الزمن الجميل

....وأذكرُ أَنهُ نهر .. وأن اسمه "خريسان". وهو مِلكُ مدينتنا بعقوبه ، مدينة "البرتقال النشيط" الذي يُخرِجهُ خليلُ المعاضيدي من قميصِهِ اليساري.
على أنّ ذكرياتي عن النهرِ لا تُشبهُ ذكرياتِ أبي؛ فلقد كان يتحدث عن أشياءَ أخرى، وكنتُ أصدّقها ، وهذا ما لم يفعلهُ ولدي .. فكذَّبَني!
قلتُ: لديَّ شاهدُ إثبات...
كان يحبُّ النهرَ والحكاياتِ لذا اتخذ منزلاً يطلُّ على النهر، وكانا توأمان لسببٍ بسيط : إن كلاهما ينبعُ من الشمال ويتوسدُ قلبَ المدينة! وكنتُ أحسه يقضي الليلَ يسامرُ النهرَ ويحكي لهُ .. ويحكي ويحكي .. ثم يروحُ يهدهدهُ بمواويلهِ الكرديةِ حتى ينام.
صبيّاً كنتُ، في الرابعة عشرةَ، مع ثلّةٍ من الأصدقاء. نقضي "العصاري" نسيرُ فوقَ كورنيش "خريسان" جيئةً وذهاباً، نتسكعُ ونقطف زهر الآسِ الأبيض، نشمُّ رائحته الحادة، وحين نرميه الى "خريسان" يطفو كزنابق ماءٍ بيضاء. وكنتُ كلّما مررتُ بدارهِ أقفُ قُبالتها متكئاً على سياج الكورنيش الحديدي لعلّي أراهُ خارجاً. كنتُ أتذرعُ بشتّى الحجج لأُطيلَ الوقوف رغم إلحاح بعض الأصدقاء على إكمال "مشي العصاري"
كان ثمة شيء يجذبني نحو توأم النهرِ رغمَ أني لم أتحدّث إليهِ مطلقاً ولم تلتقِ عينانا قط. وأكثر ما كنتُ أطمح اليه أن أراهُ خارجاً من دارهِ عصراً والشمسُ على مسافةِ ذراعٍ أو اثنتين من خط الأفق. عندها أعلمُ أنه قد عاد من العاصمة التي كانت تستولي عليهِ بجرائدها ومسارحها وفنّانيها، فأروحُ أتتبعُ خطوات الماركسي النبيل المربوع القامة ، والذي كان يرتدي دوماً بدلةً وربطةَ عنقٍ وحذاءً من الجلد الأصيل ويروح يسيرُ الهوينى نحو "مقهى الشبيبة"
قال ولدي : وأينَ شاهدكَ هذا الآنَ لأسأله ؟
قلتُ : لا أدري بالضبط ... عليكَ أن تنتظرهُ عندَ النهر ... كما كنتُ أفعل !